وهذه الذكريات التي يقيمها الناس لعظمائهم، والمذكرات التي ينصبونها لبقاء أسمائهم محفوظةً، وأعمالهم ملحوظة، هي تجديد للعهد بهم، وتمديد للاتصال الروحاني الذي يربط الفروع بالأصل، ويحثّ على التأسّي والاستمرار، ودعوة متجدّدة إلى مبادئهم، وردعٌ للمتطاولين الذين يهتبلون الغفلة وفراغ الميدان فيتعاظمون، فهي- في بعض غاياتها- حراسة للعظمة الحقيقية من العظمة الصناعية، وكأنها تصحيح لحدودها، وتفقّد لموازينها، ومراقبة دائمة للتزوير أن يلمّ بها، فيطغى عليها، فيفسد على الناس أمرها وآثارها، وهذه النقطة وحدها تعدّ من محسنات التكرار لأقوال العظماء، والترديد لفضائلهم في كل سنة.
...
وذكرى عبد الحميد بن باديس هي ذكرى أعماله وآثاره في الأمّة، فهذه اليقظة المتفشية فيها، وهذه الحركات السارية كالنار في الضرام، وهذه النظرات الجديدة في الحياة، وهذه الاتجاهات المسدّدة فيها، وهذا التجدّد في الأذهان والعقول، وهذا التصلّب في المقاومة، وهذه الأقلام الجارية بالبيان العربي، وهذه الألسنة المحلولة العقد في الخطابة، كلها مذكّرات بعبد الحميد، وفي كل منها أثر من يده، وأثارة من عقله، ونفخة من روحه، دعا إليها، وجهر بها، وعمل لها، وغرسها في نفوس تلامذته بالدرس، وفي عقول جلسائه بالمذاكرات، وفي عامة الأمّة بالمحاضرات.
إن هذه النهضة التي لم تزل في تباشيرها، ستمدّ مدّها حتى تصبح تاريخًا حافلًا، وستنشئ بنفسها مؤرّخها المنصف، ويومئذ يضطر ذلك المؤرّخ إلى إرجاع العناصر إلى أصولها، فيجد عبد الحميد بن باديس "واضع الأس والحجر".
...
في مثل هذا اليوم من شهر أفريل من كل سنة، تتبارى الأمّة الجزائرية في إقامة الذكرى لعبد الحميد بن باديس، إحياءً لذكره، واعترافًا بفضله، وتتولّى مدارس جمعية العلماء وشعبها تنظيمها والإشراف عليها، وتعميرها بالخطابة والشعر، وتخليدها بالكتابة، وتشترك فيها الأحزاب السياسية، ومنظّمات الطلبة في خارج الجزائر، وكل ذلك بعض حقوق إمام النهضة على رجال النهضة، ولكن أكبر حقوقه علينا في التخليد، وأعوَدها علينا بالنافع المفيد، هو البناء والتشييد. فليس بنافعنا ولا بنافعه أن نبكي في كل سنة ونعدّد، ولا أن نكرّر فضائله ونردّد، وإنما الذي يعود عليه بأجر من دعا إلى خير، وسنّ سنّةً حسنة، ويعود علينا بفائدة من غرس غرسًا فسقاه، وعمل صالحًا فأبقاه، هو تشييد المعاهد العلمية وتعميرها، وتعهّدها بالعناية، وإمدادها بأسباب البقاء، وقد كان المعهد الباديسي بدءَ العمل، فلا يكوننّ الختام.