معرض النصح لنا، وأنا لا أدري متى كان إبليس مذكرًا. ما يرمون إليه، أنهم يريدون أن ننسى ماضينا فنعيش بلا ماضٍ، حتى إذا استيقظنا من نومنا أو من تنويمهم لنا، لم نجد ماضيًا نبني عليه حاضرنا، فاندمجنا في حاضرهم، وهو كل ما يرمون إليه. وسلوهم ... هل نسوا ماضيهم؟ إنهم يبنون حاضرهم على ماضيهم، إنهم يعتزّون بآبائهم وأجدادهم، إنهم يخلدون عظماءهم في الفكر والأدب والفلسفة والحرب والفن، إنهم لا ينسون الجندي ذا الأثر فضلًا عن القائد الفاتح، وهذه تماثيلهم تشهد وهذه متاحفهم تردّد الشهادة.
إن القوم يحتقرون حاضرنا الذي أوصلونا إليه، ويعتقدون أننا صبيان، فيتذكّرون ماضيهم ليبنوا عليه حاضرهم ومستقبلهم، وينكرون علينا ذلك، فمن حقّنا، بل من واجبنا أن نعرف ماضينا والرجال الذين عمروه في ميادين الحياة، فنعرف من هو أبو بكر ومن هو عمر؟، ونعرف ما صنع عقبة وحسّان وطارق وموسى وطريف في الغرب، وما صنع المثنى وسعد وخالد وقتيبة في الشرق.
ألا أنهم يذكِّرون أبناءهم بماضيهم، ويلقّنونهم سِيَر أجدادهم وأعمالهم، وإنهم يذكرون أبناءنا المتأثرين بعلومهم وصناعاتهم بذلك، ويأتونهم بما يملأ عقولهم ونفوسهم حتى لا يبقى فيها متّسع لذكريات ماضينا وأسلافنا، وإن الواحد من هذا الصنف من أبنائنا ليعرف الكثير عن نابوليون، ولا يعرف شيئًا عن عمر، ويحفظ تاريخ "جان دارك" عن ظهر قلب، ولا يحفظ كلمة عن عائشة وخديجة، وإن هذه لهي الخسارة التي لا تعوّض، وإني أتخيّل أن لهم في تحريف الكثير من أسماء أعلامنا مأربًا يوم كانوا يأخذون العلم عنّا، كأنهم ألهموا من يومئذ أن الزمان سيدول وأن دورة الفلك علينا بالسعد ستنتهي، وأننا سنعود إلى الأخذ عنهم، فحرّفوا أسماءنا لتشتبه على أبنائنا، فلا يعرفون أن "افيرويس" هو ابن رشد، وأن "افيسن" هو ابن سينا، وان "جيبرال طار" هو جبل طارق، وهكذا يتكلم أبناؤنا اليوم بهذه الأسماء، وهكذا ينطقون بها، ولا يهتدون إلى أصحابها حتى يقيّض الله لهم من يكشف الحقيقة، ثم يبقى أثر الشك في نفوسهم، لما يصحب تثقيفهم الأجنبي من تحقير لجنسهم وحكم على تاريخهم بالعقم الفكري ... وإنها لمصيبة يجب علينا أن نتنبّه إلى خطرها، ونبادرها بالعلاج، وان دواءها الوحيد هو تثقيف أبنائنا تثقيفًا عربيًا شرقيًا موحّدًا، وأقول موحّدًا لأنني أعتقد أن الخلافات السياسية التي مُني بها الشرق، يرجع معظمها إلى اختلاف الثقافات، فالمثقّف ثقافة انكليزية يحترم انكلترا، والمثقّف ثقافة فرنسية يحترم فرنسا، وهكذا وزّعنا الاحترام على الغير، فلم يبق من احترامنا لأنفسنا شيء، وكأننا استبدلنا بجنسيتنا الواحدة جنسيات متعددة، كلها غريبة عنّا، وكلّها مجمعة على اهتضامنا وهضمنا، ولولا نزعات موروثة عن الأجداد الذين قهروا الرومان في أفريقيا، ودفعوا الصليبيين عن الشرق، لم يبق لنا من ذلك التراث الغالي شيء، بفعل التجهيل الذي هو غاية الاستعمار فينا، وبفعل هذه التعاليم الغريبة عنّا.