رمى الشرق باريس بأفلاذ كبده فعز على المغرب العربي أن يبقى بعيدًا مع قرب الدار، فرمى باريس بأفلاذ من كبده ليلقى الأخ أخاه فيتناجيان بالبر والتقوى، ويتطارحان الألم والشكوى. ويهش وجه لوجه، ويخفق قلب لقلب، وتصافح يد يدًا، وترد تحية عن تحية، ثم يقوى ساعد بساعد ويشتدّ عضد بعضد، ويمتزج ضعف بضعف فينبثقان عن قوّة، وضعيفان يغلبان قويًا (تصفيق).
أيها الإخوان!
لم يؤثر الفاتحون المتعاقبون على الشمال الأفريقي، ولا أثّرت الأديان الراحلة إليه، جزءًا مما أثر الإسلام، وأثرت العروبة، ذلك لأن الفاتحين لهذا الوطن قبل الإسلام إنما جاءوه بدين القوة وشريعة الاستغلال، أما الإسلام فقد جاء بالعدل والإحسان، وجاء وافيًا بمطالب الروح، ومطالب الجسم، وجاء لإقرار الإنسانية بمعناها الصحيح في هذه الأرض، لذلك كان سريع المدخل إلى النفوس، لطيف التخلّل في الأفكار، قوي التأثير على العقول، ولذلك طال في هذا الشمال أمدُه، وسيبقى ما دامت الفوارق قائمة بين الإنسان والحيوان.
وإن هذا الشمال الأفريقي كل لا يتجزأ (تصفيق) تربط بين أجزائه دماء الأجداد، ولسان العرب، ودين الإسلام، وسواحل البحر في الشمال، وحبال الرمال في الصحارى، وسلاسل الأطلس الأشم في الوسط، واتحاد الماء والهواء والغذاء، وإنها لخصائص تجمع الأوطان المتباينة، فكيف لا تجمع الوطن الواحد؟ إن تفرّق هذه الأجزاء لم يأت من طبيعتها وإنما جاء من طبائعنا الدخيلة، ومن تأثراتنا الغريبة بالدخلاء، وإنني متفائل بأن هذه الليلة ستكون فاتحة لعهد جديد واتحاد عتيد، ونور من الرحمة والإخاء ينتظم المغارب في سلك. إنني متفائل بما يتفاءل به السارون المدلجون من انبلاج الفجر، فعسى أن يتحقق هذا التفاؤل فتكون هذه الليلة أول خيط في نسيج الوحدة الأفريقية التي هي آخر أمل للمتفائلين مثلي، وإن العنوان الدال على ما وراءه هو اجتماع جميع حركات الشمال الأفريقي في هذا المحفل الزاهر، وان البشير بتحقّق هذا الأمل هو امتزاجنا بإخواننا الشرقيين حول هذه الموائد ومن بركاتهم أن تجتمع حركاتنا كلها في صعيد واحد، وكلها لسان يعبِّر، وقلب يفكّر، وآذان تسمع، وإنّا لنرجو أن تكون قلوينا غدًا غير قلوبنا بالأمس، وأن نفيء إلى الحق الذي أمر الله بالفيأة إليه، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (تصفيق متواصل).
...
أيها الإخوان!
يقول المستعمرون عنا: إننا خياليون، وإننا- حين نعتزّ بأسلافنا- نعيش في الخيال، ونعتمد على الماضي، ونتّكل على الموتى، يقولون هذا عنا في معرض الاستهزاء بنا، أو في