المقدسة وكانوا مع ذلك يعظمون البيت الحرام ويحجونه، كما قال ابن إسحاق ما بعث اللَّه نبيا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وقد حج البيت وقد جاء في كثير من الروايات التنصيص على موسى وعيسى ويونس عليهم السلام تلبيتهم صلوات اللَّه وسلامه عليهم، وأما محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد جمع اللَّه تعالى له بين القبلتين قطعا. وإنما كان وقع الخلاف في كيفية ذلك والذي صححه الإمام أبو عمر بن عبد البر أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان بدء مقامه بمكة يستقبل الكعبة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم تحول إلى الكعبة، فيكون النسخ قد وقع مرتين وفي تفسير الطبري عن ابن جريج أنه أول ما صلى بمكة إلى الكعبة ثم صرف عنها إلى بيت المقدس فصلت فيه الأنصار بالمدينة ثلاث حجج وفي رواية أخرى له عن قتادة حولين. فلما هاجر صلوا معه تلك المدة ثم تحولوا إلى الكعبة والصحيح الذي أطبق عليه الأكثرون أنه لم يصل بمكة إلا إلى بيت المقدس. ولكنه كان يصلي بين الركن اليماني والحجر الأسود فتكون الكعبة أمامه فيظن من يراه أنه يصلي إليها ولعله إنما كان يفعل ذلك حبًا لاستقبالها لكونها قبلة أبيه إبراهيم أو تألفا لقريش. فلما قدم المدينة والجمع بين القبلتين فيها متعذر صلى إلى بيت المقدس تألفا لليهود، فلما رآهم على غيهم لا ينزعون تحول إلى الكعبة، ثم القائلون بهذا اختلفوا فأكثرهم على أن استقبالهم بيت المقدس وهو بالمدينة كان حتما من اللَّه تعالى ويدل له قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]، وقالت طائفة إنه لما قدم المدينة خيره اللَّه تعالى بين القبلتين وقيل بين الجهات كلها يتوجه حيث شاء فاختار بيت المقدس ثم وجه إلى الكعبة واستشهد ابن زيد على هذا بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ