الأسباب، ربما كان فيها شيء من الضيق " بمستنقع التاريخ " أي بالواقع الحضاري وقيمته، إلا أنها في الجملة " غربة وجود "، لأن ذلك الوجود لا يجد ما يسوغه، وهي بهذا المعنى تعود لتلتقي مع تصرفات بعض أبطال سارتر في بعض رواياته لا مع فلسفته النظرية عن الاغتراب، وأيا كانت صلتها ومهما تكن بواعثها، فإنها كانت يومئذ تتصل بما شاع من نظرات وجودية. وخلاصة موقف " المتكلم " فيها أنه إنسان فقد هويته، وأنه لو كان هناك " رجاء " لا حب أن يستعيد تلك الهوية من خلال سيره الدائب بحثا عنها، ولكنه لا يغفل، وحين يعلل نفسه بقوله: " سأكون " يحس بعدم الجدوى وبأنه سيبقى دائما سائرا من لا مكان، ودون وجه ودون تاريخ. ولكنه لن يستطيع أن يتجاوز ذلك الصوت الذي يناديه، والذي سيشكل بحسب التحولات التي توجهه من بعد في كل مرحلة شعرية، وأنه أن كان في هذه القصيدة مؤمنا باستحالة استرداد الهوية التي فقدها، فإن كثيرا من همه في المستقبل سيغدو بحثا عن تلك الهوية رجاء استعادتها. ومهما يكن من شيء فانا نرى البياتي؟ بعيد سنوات قليلة من الانطلاقة التي سار فيها كل من نازك والسياب - قد سخر الشكل الشعري الجديد لمؤثرات خارجية مختلفة، تجاوزت التحوير للمواجد الرومنطقية الذاتية، وأتاح للحركة الجديدة أن تبارح نقطة التحول من داخل الماضي، وأن تعانق وجهة؟ بل وجهات - جديدة، فإذا كان نازك والسياب قد اشتركا في ارتياد شكل جديد، فإن البياتي كان أسبق المجددين إلى تغيير طبيعة المحتوى في ذلك الشكل. لقد ألقى الأولان حجرا في ماء الشعر وسرهما؟ إلى حين - اندياح الدوائر واتساع أقطارها في ذلك الماء، وذهب الثالث يعمل على تحويل مجرى ذلك الماء ليسقي غراسا مختلفة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015