في القصيدة حلم كثير بل سلسلة من الأحلام، ولكن الشاعر نفسه ليس هو الحالم الرومطيقي، وإنما هو يسقط الحلم على مجتمع هذا السوق (وهو نفسه مجتمع القرية) لأن ذلك الحلم في حياة أولئك الفقراء الكادحين تعويض عن الحرمان، وإذا كان " الغريب " في سوق السياب قضى شطرا طويلا من عمره " بين التمطي والتثاؤب تحت أفياء النخيل " فإن القرية تبدو للواقف في سوق الباتي " أكواخا تتثاءب في غاب النخيل "، وكأن البياتي يقول في قصيدته: لماذا يختار الشاعر أن يمشي في الليل وحيدا في سوق قد خلت من الناس أو كادت ليحلم بالحب والمنتظرة، ولا يحاول أن يرى السوق في واقعها الصحيح، في رائعة النهار، وفي القرية لا في المدينة، ويستمع إلى أحلام الفقراء وتمنيات المعوزين، أنه ليس في حاجة أن يرى السوق حزينا لأنه هو نفسه حزين، شاحبا لأن أحلامه شاحبة، وما عليه إلا أن يجيل بصره وسمعه ليدرك أن السوق بائس حزين، دون استقطاعات ذاتية. ومن اللافت للنظر تلك المفارقة التي يقيمها الشاعر بين القرية والمدينة مستمدا حكمه على المدينة من تصور الفلاحين لها وهم يقولون لدى عودتهم منها:

يا لها وحشا ضرير

صرعاه موتانا وأجساد النساء

والحالمون الطيبون

فهذه المفارقة تضيف إلى بؤس الريفيين بؤسا جديدا: أين يذهبون؟ أنهم يفرون من قراهم وبؤسها وتخلفها إلى المدينة فتفترسهم ببراثنها خبط عشواء، فيعودون وقد ضاق عليهم المنقلب والمتردد يرضون بمعايشة الذباب، واجترار الحكم البالية. ويتذكرون أن قريتهم؟ رغم قذارتها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015