ويختلف موقف البياتي من بغداد عن موقف كل من السياب وحجازي والحيدري من المدينة، فهو - ابتداء - لم يعان نفورا منها، وان كان يدرك أن صرعها " أجساد النساء والحالمون الطيبون "، ومن ثم كانت بغداد لديه عدة مدن لا مدينة واحدة، أي أنها كانت انعكاسات لاسقاطاته النفسية المختلفة، ففي البواكير الرومنطقية الأولى تمثل بغداد المرأة الجميلة الفاتنة المحبوبة:
بغداد يا اغرودة المنتهى ويا عروس الأعصر الخالية
الليل في عينيك مستيقظ وأنت في مهد الهوى غافيه
وهي في خواطر المنفى البعيد " طفلة عذراء " أو " ساقية خضراء "، ورغم أنها قد تجمع بعض النتناقضات: " الشمس والأطفال والكروم، والخوف والهموم، وموطن العذاب والعراة " فإنه مشدود بالحنين الجارف اليها، كيفما كانت وفي أي شكل تصورت، ويتمنى أن يعود إليها ولو " على جنح غيمه/ على ضوء نجمه "، لكن حين تغير المنظر السياسي، حين امتدت النار في المدينة إلى حديقة الليمون لم تعد بغداد طفلة عذراء، بل أصبحت هرة سوداء:
تبصق الموتى على الأرصفة الغبر السخينه
في ذراع الليل
ليل السل، كالام الحزينه
لم تزل تبصق آلاف المساكين، المدينه
في مقاهيها وفي حاراتها السود اللعينه
وعلى أشجارها الصفر الدميمه
يولد الخوف، كما تولد في أعماقها السفلى
الجريمه