أما أن الشاعر الغربي يعبر عن تضايقه من الحضارة الحديثة؟ لأسباب عديدة - ومن المدينة رمز تلك الحضارة، فأمر لا يحتاج توضيحا أو مناقشة، وأما أن الشاعر العربي الحديث، مقلد له في هذا المجال، فأمر محوط بالشك الكثير، ذلك لأن المسألة لا تعدو ان تكون نسبية، ففي البلاد العربية مدن؟ مهما يكن حظها من الضخامة - تختلف فيها طرز الحياة اختلافا غير قليل عما هي الحال في الريف، وقد كان من المصادفة المحض أن يكون عدد من الشعراء المعاصرين ريفيي النشأة ثم هاجروا إلى المدن، فالصدام بينهم وبين المدنية لا يعني مقتا للحضارة ووسائلها، وإنما هو تعبير عن " عدم الألفة " بينهم وبين البيئة الجديدة، لأسباب مختلفة.
فمن المعروف أن أول ما يحس به الريفي تجاه المدينة هو النفور من الضجيج الكبير والازدحام والتدافع، واضطراره إلى تغيير طريقته في المشي المتباطئ واستحداث سرعة لم يألفها من قبل في الحركة عامة، والإحساس بالحيرة والخوف إزاء أدوات المواصلات وتعقيدها، واللامبالاة في سرعتها دون تقدير لشعور المشاة، يرافق كل هذا انبهار مشوب بالرهبة من الأضواء والمباني والمنشآت الكبيرة، فإذا أتيح له أن يمكث في المدينة؟ مكوثا مؤقتا طويلا - وأن يفيد من الخدمات الكثيرة فيها من تعليم واستشفاء ووفرة في مواد الاستهلاك، ومعارض ومتاحف ودور سينما، لم تكد هذه المزايا تنسيه أنه أيضا يجد فيها أن كل شيء محسوب بزمن، وأن الساعة تتحكم في كل العلاقات والتصرفات، وأن هناك عادات ومواصفات لا يستطيع أن يطمئن إليها بسهولة. ويبدأ يحس بالفارق الضخم بين المجتمع الفقير والمجتمع الغني في المدينة نفسها، ولعل أشد ما يصدمه أن كل شيء يباع، فتأخذه الحسرة على ما فقده من " فضائل " الريف