"أحدهما": أن الاعتقاد القوي الذي يستولي على القلب، ويستحوذ على المجموع العصبي، يُحدث في عالم المادة من الآثار ما يكون على خلاف المعتاد، فكم من سليم اعتقد أنه مصاب بمرض كذا، وليس في بدنه شيء من جراثيم هذا المرض، فولد له اعتقاده تلك الجراثيم الحية وصار مريضًا، وكم من امرئ سقي الماء القراح أو نحوه فشربه معتقدًا أنه سُم ناقع فمات مسمومًا به، والحوادث في هذا الباب كثيرة أثبتتها التجارب، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول: إن مريم لما بُشرت بأن الله تعالى سيهب لها ولدًا بمحض قدرته وهي على ما هي عليه من صحة الإيمان وقوة اليقين انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد انفعالًا فعل في الرحم فعل التلقيح، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت، وفي مزاج المريض فيبرأ، وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متممًا لهذا التأثير.

"الوجه الثاني": وهو أقرب إلى الحق وإن كان أخفى وأدق، وبيانه يتوقف على مقدمة وجيزة في تأثير الأرواح في الأشباح؛ وهي أن المخلوقات قسمان: أجسام كثيفة وأرواح لطيفة، وأن اللطيف هو الذي يحدث في الكثيف الحي ما نراه فيه من النمو والحركة والتوالد الذي يكون فيه من النمو أو يكون النمو منه، فلولا الهواء لما عاشت هذه الأحياء، والهواء روح؛ ولذلك كان من أسمائه إذا تحرك الريح، وأصلها رِوح -بكسر الراء- ولأجل الكسر قلبت الواو ياء لتناسبه، والماء الذي منه كل شيء حي مركب من روحين لطيفين، وهو يكاد يكون في حال التركيب وسطًا بين الكثيف واللطيف؛ ولكنه أقرب إلى الثاني، والكهربائية من الأرواح، وناهيك بفعلها في الأشباح.

فهذه الموجودات اللطيفة التي سميناها أرواحًا هي التي تحدث معظم التغيُّر الذي نشاهده في الكون؛ حتى إننا قد رأينا في هذا العصر من أسرارها ما لم يكن يخطر على بال أحد من قدماء فلاسفتنا، ويعتقد علماؤنا اليوم أن ما سيظهر منها في المستقبل أَجَلُّ وأعظم، فإذا كان الأمر كذلك في الأرواح التي لا دليل عندنا على أنها تدرك وتريد، فلم لا يجوز أن يكون تأثير الأرواح العاقلة المريدة أعظم".

ثم قال: "إذا تمهد هذا فنقول: إن الله المسخر للأرواح المنبثة في الكائنات

طور بواسطة نورين ميديا © 2015