بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جمودًا على العادات، وذهولًا عن كيفية ابتداء خَلْق جميع المخلوقات، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين؛ ولكن لا دليل لهم إلا أن هذا غير معتاد، وهم في كل يوم يرون من شئون الكون ما لم يكن معتادًا من قبل؛ فمنه ما يعرفون له سببًا ويعبرون عنه بالاكتشاف والاختراع، ومنه ما لا يعرفون له سببًا ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة.

ونحن -معاشر المؤمنين- نقول: إن تلك الأشياء المعبَّر عنها بالفلتات إما أن يكون لها سبب خفي؛ وحينئذ يجب أن تهدي هؤلاء الجامدين إلى أن بعض الأشياء يجوز أن يأتي من غير طريق الأسباب المعروفة، فلا ينكروا كل ما يخالفها لاحتمال أن يكون له سبب خفي لم يقفوا عليه، ولا ينزل أمر عيسى في الحمل به من غير واسطة أب عن ذلك، وإما أن تكون قد وُجدت في الواقع ونفس الأمر خارقة لنظام الأسباب؛ وحينئذ يجب بأن يعترفوا بأن الأسباب الظاهرة المعروفة ليست واجبة وجوبًا عقليًّا مطردًا، وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئًا ما ويعده مستحيلًا؛ لأنه لا يعرف له سببًا.

ولعل أبناء العصور السابقة كانوا أقرب إلى أن يعذروا بإنكار غير المألوف من أبناء هذا العصر الذي ظهر فيه من أعمال الناس، ما لو حدث به عقلاء الغابرين لعدوه من خرافات الدجالين، ونحن نرى علماء الغرب وفلاسفته متفقين على إمكان التولد الذاتي؛ أي: تولد الحيوان من غير حيوان أو من الجماد، وهم يبحثون ويحاولون أن يصلوا إلى ذلك بتجاربهم، وإذا كان تولد الحيوان من الجماد جائزًا فتولد الحيوان من حيوان واحد أولى بالجواز وأقرب إلى الحصول، نعم، إنه خلاف الأصل، وإن كونه جائزًا لا يقتضي وقوعه بالفعل، ونحن نستدل بوقوعه بالفعل بخبر الوحي الذي قام الدليل على صدقه1.

إلا أن تعدي السيد رشيد رضا حدود التفسير وتجاوزه لمنهج السلف يظهر في محاولته تقريب هذه الواقعة إلى السنن المعروفة في نظام الكائنات؛ وذلك بصرفها عن أن تكون خارقة وآية للناس إلى أن تكون غير ذلك؛ حيث يقول: "ويمكن تقريب هذه الآية الإلهية من السنن المعروفة في نظام الكائنات بوجهين:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015