إدراك هذه المعطيات يجعل تصور عمل إيزوتسو واضحاً، وسيجد القارئ للكتاب نفسه بعد معرفته هذه الأمور أنه يسير بسلاسة في فهم المعنى الذي يبحث عنه إيزوتسو وهو نظرة القرآن إلى العالم، وسيجد من خلال الكتابين تطبيقات دقيقة وعميقة لما سبق من وضوح منهجي.

ولا يسع المتأمل والناقد لهذه المقدمات ولما تم من تطبيقات إلا أن يعتبرها معطيات تقدم إضافة علمية ومنهجية في درس القرآن وتدبره، واكتشاف إحكامه وتفصيل آياته، فالمقدمات المذكورة هي مقدمات لها سوابق في علوم اللغة والأصول لكنها لم تطبق مترابطة مع بعضها [54]، وكان الهدف منها درس المعنى الجزئي لا درس البنية المتكاملة للموضوع في كامل القرآن، فالبحث الأصولي والفقهي في المصطلحات الشرعية، والفرق بين الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية إنما اتجه إلى نماذج محدودة من المفردات، وهي مفردات ظاهرة التباين والاختلاف بين المعنى اللغوي والمعنى في السياق القرآني، والهدف منها البحث في الأحكام الشرعية المستنبطة من القرآن، أما إعمال علم الدلالة في منهج إيزوتسو فهو أشمل من المفهومات الشرعية المألوفة، ويهدف أساساً إلى إدراك طبيعة التحول في المفهوم وكيف تم توظيفه في التحول الفكري الذي جاء به القرآن، ومن ثم (كيف) صاغ من خلاله منظراً جديداً للعالم.

فإدراك هذه المنهجية القرآنية في توظيف المفهومات وتحويلها ضمن السياق القرآني يسهم بقدر كبير في اكتشاف منهج القرآن في التغيير والدعوة، ومنهجية التغيير الاجتماعي والثقافي وصولاً إلى غرس المفهوم الإسلامي في المجتمع، باستثمار مجموعة المفهومات التي يستخدمها الأفراد بمعان مشترك جزئياً أو مباينة كلياً للمعنى الجديد، لكن في توظيفها توطين للفكرة الجديدة في عقول المدعوين.

فهذا اللون الجديد في الدرس القرآني يمكن اعتباره تطويراً عميقاً في أكثر من مجال في العلوم الإسلامية، فهو يسهم في تطوير مناهج التفسير الموضوعي، كما يمكن اعتباره لوناً من الدرس البلاغي للقرآن، وفي إطاره الأسمى هو درس للفلسفة الإسلامية التي يقدمها القرآن للعالم، ومنهجية التغيير التي احتواها القرآن وتجسدت في عصر نزوله.

من جهة أخرى فإن هذه المنهجية يمكن توظيفها في نقد مفهومات العلوم الإسلامية في ضوء صلتها بالمفهوم القرآني، لاسيما المفهومات المشكلة كالتي تنتمي إلى حقل علم الكلام، وقد أشار إيزوتسو إلى ذلك، وربما طبقه في دراسة خاصة عن الإيمان في علم الكلام، إذ يفتح إيزوتسو نافذة في هذا المنهج لدراسة المفهومات الأساسية في حقول دلالية خاصة بعد النص القرآني كحقل التصوف وعلم الكلام والفلسفة، وغيرها، ومقارنة صلة المفهومات في هذه الحقول بالمفهوم القرآني، وهذه الزاوية تسهم في تقديم نظرة نقدية لمختلف الأنساق في العلوم الإسلامية تسهم في التقريب بينها أو ترجيح ما اختلفت فيه من خلال دقة صلتها بالمفهوم القرآني، ذلك أن هذه الدراسة للمعنى من خلال القرآن نفسه، تسهم إلى حد كبير في الحياد العلمي في دراسة القرآن، إذ طبيعة هذه المنهجية تستبعد ابتداء الأسبقية لدى القارئ وتجعله يستسلم لما يقوده إليه النظام المفهومي والعلاقات بين الكلمات القرآنية في حقلها الدلالي.

لكن هذا الفأل بإمكان الاستفادة من هذه المقدمات المنهجية لا يعني التسليم بتطبيقاتها إذ قد تختلف من باحث لآخر، فهي خاضعة للتجريب والنقد، بالقدر الذي هي واعدة بإضافة علمية، وكذلك الأمر بالنسبة لتطبيقات إيزوتسو نفسها فهي تحتاج إلى دراسات أخرى تسبر دقتها، إذ هي من العمق والدقة ما يحتاج إلى التتبع والتحليل بما لا يتسع له مقام هذه الورقة حتى بمستوى العرض، والأمل أن تفتح هذه المقاربة نافذة جديدة للدرس القرآني من خلال هذا النموذج الذي عرضته، فأعمال إيزوتسو – فيما أحسب-، يمكن أن تقدم إطاراً منهجياً قابلاً للتطوير والتطبيق في الدراسات القرآنية، ويمكن لهذا الإطار أن يقدم إضافة نوعية في تدبر المعنى القرآني، واكتشاف إحكامه وتفصيله، لاسيما من زاوية دراسة المفهومات القرآنية.

الحواشي: ------------

(*) بحث مشارك في المؤتمر العلمي الدولي:"التعامل مع النصوص الشرعية (القرآن والحديث) عند المعاصرين" الذي نظمته كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، وذلك خلال الفترة من 6 - 8 ذو القعدة 1429هـ -الموافق 4 – 6/ 11/2008م

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015