مقتضى ما تقبله العقول وتفهمه النفوس، فأما التفصيل، فليس للكتب السماوية، وإنما هذه مقدمات يُؤتى بها للمقاصد، فأما التفصيل فقد قام به علماء الأمم من عجم وعرب" [28].

ويقول في موضع آخر في حوارٍ له مع شخصٍ آخر نافياً عن نفسه تهمة من نسبَ له القول إنّ كل العلوم التي ظهرت في الغرب موجودة في القرآن الكريم [29]: "وأنا لم أقل إن أهل أوروبا استنتجوه من القرآن، بل استنتجوه بعقولهم، ولقد بعث الله الغراب وغير الغراب لهم كما بعث لنا، وأراهم الغراب وغير الغراب كما أرانا، ولكن هم رأوا، ونحن ما رأينا، وهذا عار على أمة الإسلام أن تجهل عقلها، وتجهل دينها، فأنا لم ألصق بالقرآن يا صاحِ علماً ولا صناعةً، وإنما أنا متبع لا مبتدع [يقصد أنه متبع لعلماء الإسلام الذين أوجبوا دراسة العلوم الكونية، واعتبروها من فروض الكفايات التي تتوقف عليها مصالح المسلمين، مثل الجويني والغزالي [30]]، فقال: لقد أحسنتَ، كل الإحسان، وأجبتَ ما في صدري، وعلمتُ اليوم أن الذي يقولون فيك ما قلتُه الآن [أي اتهامه بإلصاق كل شيء بالقرآن والدين] جُهَّال لم يقرؤوا مقالةً تامة من كلامك، فقلتُ: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات" [31]. وبهذا يمكن أن نقول إنه قد تمّ فهم علاقة تفسير "الجواهر" بالعلوم الكونية بشكل مغلوط.

ومهما يكن من أمرٍ، فقد أفرط طنطاوي في استخدام العلوم الكونية في تفسيره، إلى درجة أنه اعتبرها مرجعية إجبارية لفهم القرآن وتفسيره، فها هو يقول: "هذا القرآن يستحيل أن ينتفع به المسلمون إلا إذا قرؤوا جميع العلوم، ومن أين يعرفون معنى هذه الآيات التي تُعرض على العامة والأطفال لأنها في السور الصغيرة المعروفة لكل قارئ [يقصد سور جزء عمَّ] إلا بالعلوم والمعارف، وأرجو أن يتم ذلك بعد انتشار هذا التفسير" [32]. ويقول في موضع آخر: "أوَ ليس في قوله [تعالى]: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط} ما يدعو إلى سائر العلوم، فإن القيام بالقسط هو نفس النظام، أي نظام الفلك، ونظام الطبيعة. وقد قال علماؤنا: لا يعرف معنى القيام بالقسط إلا من درس سائر العلوم، كما قالوا في قوله تعالى {ووضع الميزان} في سورة الرحمن، إن هذا الميزان لا يعقله إلا الذي درس كل علمٍ كالطبيعة والفلك والكيمياء" [33].

في كلام جوهري هذا خروجٌ عن طبيعة النص القرآني، ومنهجية فهمه، فالعلوم ضمن شروط منهجية منضبطة، قد تزيد عملية التفسير غنى وعمقاً، ولكن بلا شك فإنّّ الناس يستطيعون من دونها أن يفهموا القرآن الكريم في الحدود المعقولة الضامنة لتوظيفه في حركة التاريخ وصياغته، والدليل على ذلك ما فعله المسلمون الأوائل الذين لم تدخل العلوم الكونية في مرجعياتهم العلمية في فهم القرآن الكريم، وعلى الرغم من ذلك فقد فتحوا العالم، وأسسوا حضارة عالمية بكل المقاييس الحضارية المعروفة في تلك الأزمان.

ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الشيخ طنطاوي كان يهدف من سرد شتى العلوم والمعارف في تفسيره إلى إيقاظ رغبة الأجيال الجديدة من المسلمين في دراسة العلوم الحديثة، ودفعهم دفعاً من خلال ربطها بالقرآن الكريم إلى الإبداع في هذه العلوم، والتفوق فيها على الغربيين الذين احتلوا بلادهم، وعملوا على منع وصول هذه العلوم إليهم، خوفاً من استيقاظهم، وانتزاع بلادهم منهم [34]. يقول جوهري موضحاً هدفه من ذكر العلوم الكونية في تفسيره: "أن تترقى العقول الإسلامية كما تترقى عقول البشر بهذه العلوم، ولذلك لما دخل الفرنجة بلادنا المصرية منذ 45 سنة، منعوا هذه العلوم عن المصريين ليحصروها في الجهالة .. لأن علماءهم أفهموهم أن تعليم الأمم المحكومة يجعلها مدركة الحقائق، فتطرد المستعمرين، وهذا شأن الغاصب مع صاحب البلاد، وأنا أنصح المسلمين جميعاً أن يعرفوا هذه العلوم، ويقرؤوها لينفعوا أممهم، ويطردوا عدوهم، ويرضوا ربهم" [35].

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015