ـ يجب أن يكون الاستنباط من القرآن صحيحاً؛ إذ أن فهم الإنسان للقرآن قد يكون قاصراً في بعض الأحيان، والفهم الصحيح كما هو معلوم له شروطه وضوابطه وأدواته

ـ يجب أن تكون الحقيقة العلمية التي يُعتمد عليها في الإعجاز العلمي ثابتة لا يتطرق إليها الشك وليست مبنية على الفرضيات كما يجب على الباحث في هذا الشأن أن يكون عالماً بطبيعة هذه الحقائق ومتعمقاً في التخصص.

ـ إذا صحت الحقيقة وصحّ الاستنباط من القرآن فهنالك عنصر ثالث وهو دقة الربط بين المعنى القرآني والحقيقة العلمية؛ وهذا يجب أن يتم بصورة صحيحة

ومن الملاحظ أن بعض الباحثين في الإعجاز العلمي يستنبط معنى صحيحاً من القرآن ثم يأتي بحقيقة علمية صحيحة أيضاً، إلا أنه بعد ذلك كله لا يحسن الربط بينهما؛ حيث لا رابط منطقي مباشر بين الأمرين الصحيحين؛ فيجنح الباحث عندئذ إلى الإسهاب والتطويل وتمطيط معنى الآية حتى يدخل في إطار الحقيقة العلمية؛ فيتفقان حيث لا اتفاق ويرتبطان حيث لا ارتباط؛ فيظهر التكلف الواضح ويتعب الذهن في إدراك هذا الربط الذي لم يتأت إلا بمجهود كبير ومشقة بالغة من قبل الباحث أيضاً؛ فيكون هذا الربط مجرد إشارة بعيدة، وربما ذهب بعض الباحثين إلى التقاط مفردة وردت في آية من آيات القرآن وهذه المفردة تدخل في تخصصه؛ فيطيل الحديث ويورد كل ما يعرفه من حقائق علمية عن هذه المفردة؛ فيتحول البحث إلى بحث علمي مجرد لا علاقة له بالقرآن إلا من حيث ورود هذه المفردة في جملة من جمله أو عبارة من عباراته، وهذا ليس من الإعجاز العلمي في شيء؛ إذ أن القرآن العظيم لم يشر إلى تلك الحقائق التي أوردها إطلاقا، ومعلوم أن الإعجاز العلمي يسعي إلى إثبات صدق الحقائق القرآنية بالنظر إلى تحقق معنى هذه الحقائق في عالم الحس بواسطة هذه العلوم، وذلك المسعى الذي أشرنا إليه لا يدخل في هذا الإطار إطلاقا، ولا شك أن طغيان المادة العلمية على الإشارة القرآنية _ بمفردة واحدة _ يعدّ إظهاراً للحقائق العلمية المجردة لا إظهارا للإعجاز القرآني؛ كما يعدّ هذا التفسير تفسيراً للظواهر الكونية لا تفسيراً للقرآن أو بياناً لمعناه حيث يراعي تفاصيل الحقائق العلمية ولا يراعي معنى الآية ودلالاتها.

ومن أمثلة الربط المتكلّف بين معنى من معاني القرآن وبعض الحقائق العلمية ما فعله صاحب الجواهر الذي استدل بقوله تعالى: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ثم انطلق في بيان ما لحاستي السمع والبصر من دقة في التركيب وتكامل في الوظائف؛ الأمر الذي يؤكد – عنده – أن هذه الآية معجزة في دلالاتها، والحق أن هذه الآية لم تتناول حاستي السمع والبصر؛ ولم تشر لهما ولا أشارت لذلك الآية التي قبلها ولا التي بعدها أيضاً، وإنما جاءت هذه العبارة بعد الحديث عن مراحل تطور الجنين، وتمام الآيات كالآتي: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ولا علاقة لذلك بحاستي السمع والبصر إلا بصورة بعيدة لم تتطرق إليها الآية الكريمة أصلا، وعبارة (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) شديدة الارتباط بما ذكر من مراحل تطور الجنين، ويسمى ذلك في البلاغة بالتوشيح؛ وهو أن يكون أول الكلام نفسه يدل على آخره ويُعلم هذا الآخر قبل ذكره؛ فينزل المعنى عندئذ منزلة الوشاح ويسمى أيضا بالمطمع؛ لأن أوله مطمع في آخره؛ انظر إلى عبارات (الخلق) في الآية: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا ... ثُمَّ خَلَقْنَا ...... فَخَلَقْنَا ..... فَخَلَقْنَا ........ خَلْقًا ........ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)؛ ولهذا يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لما سمع صدر الآية إلى قوله: (خَلْقًا آخَرَ) قال: (فتبارك الله أحسن الخالقين) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت.

وأغلب الظن أن الشيخ طنطاوي جوهري _ لما ربط بين هذه العبارة وبين السمع والبصر _ لم ينظر إلى هذه الآية ولا إلى سياقها ونظمها؛ وإنما انصرف ذهنه إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند سجوده في الصلاة: (اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، أنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين)؛ إذ أن هذا الدعاء هو النص الوحيد الذي يربط بين تلك العبارة وبين السمع والبصر، ولو استدل جوهري بذلك لكان استدلاله مقبولاً.

ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[12 May 2009, 09:51 م]ـ

ثالثاً:مراعاة المستويات:-

إن القرآن – وإن كان إلهي المصدر – إلا أن الله تعالى يسره للبشر فخاطب جميع الناس على اختلاف مستوياتهم وثقافاتهم وعلومهم ومعارفهم، فكان بذلك إدراكه على وجوه، ومعلوم أن إدراك العلماء نفسه على درجات يعلو بعضها فوق بعض، وكلما زاد علم الإنسان انفتح له من آفاق القرآن ما لم يكن منفتحاً، إلا أن هذا الإنسان مهما أوتي من العلم فإن علمه يظل محدوداً بطاقاته وقدراته، والعلم المعاصر يكتفي بالوقوف على الوصف الخارجي للظاهرة؛ فما يهم العلم هو كيفية حدوثها لا كنهها، ولهذا فإن هذا العلم يقوم بالتصنيف الصحيح والوصف الظاهري الدقيق،؛ أي: أنهم لا يريدون أن يعلموا إلا ظاهراً من الحسيات في هذه الحياة، ولهذا ذهب فلاسفة العلم إلى أن العلم لا يحرز حقائق يقينية قاطعة وإنما يكفيه رجحان الصدق، فعبارة (حقائق علمية) لا تعني أنها تمثل واقعاً موضوعياً يصف العالم وإنما هي في نظر العلم كذلك فحسب، ومن هنا يبرز نوعان من المستويات يجب مراعاتهما عند دراسة الإعجاز العلمي؛ وهما:-

أ/ المستوى القرآني

ب/ مستوى العلوم البشرية

وتفصيل ذلك كالآتي:-

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015