وهذا ما نجده عند الآمدي في الأحكام14 والباجي في إحكام الفصول15 وغيرهما. ذلك أن التأويل والمجاز يلتقيان في معنى واحد هو العدول عن اعتبار ظواهر الألفاظ والعبارات، فالتأويل: "صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله"،16 والمجاز "كل لفظ تجوز به عن موضوعه."17

وبالجملة فإن مفهوم التأويل يدور حول معان ثلاث:

- التوضيح: ويكون التأويل فيه مرادفاً للتفسير حيث تشير الأوضاع اللغوية اشتقاقاً وتركيباً إلى المعنى من غير التوسل بالآليات الاستدلالية الذهنية أو اللغوية. ولقد ذهب ابن تيمية رحمه الله إلى أن هذا هو المقصود من مصطلح التأويل عند مجاهد والطبري18 وهذا غير مسلم به إلا على جهة التغلب، فنحن نعرف أن مجاهداً ? من الذين توسعوا في استعمال العقل في التفسير حتى عدَّ نواة التفسير العقلي، بل حكى الطبري عنه نفيه لرؤية الله مما يفيد حمله للغة القرآن على مقتضى الظاهر أحياناً، أما الطبري فلم يكن التأويل عنده يعني التفسير مطلقاً بل استعمله أيضاً في معنى الترجيح.19

- التصيير: والمقصود منه التحقق العيني للدلالة اللغوية في القرآن ومآلها إلى فعل واقعي ويشير لهذا قوله تعالى:?هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ? (الأعراف:53). فتأويل القرآن هنا معناه تحقق نبوءاته وأخبار وعده ووعيده، وهذا هو ما عناه ابن تيمية من أن معنى التأويل هو نفس المراد بالكلام.20

- الترجيح: ومداره حمل اللفظ على أحد محتملاته من المعاني بدليل يقترن به، ويستلزم الانتقال الترجيحي استثمار آليات استدلالية نصية وذهنية تسعف ضبط عملية التأويل وتلمس الخيوط الرابطة بين المعنى المتبادر والمعنى التأويلي، ولهذا جعلوا التفسير متعلقاً بالرواية، والتأويل متعلقاً بالدراية.21

وإذا كان هذا الذي بسطناه متعلقاً بالخلاف في المصطلح من جهة اللغة، فإن ثمة خلافاً أشد في إعماله النصي، أقصد تفسير القرآن، واستمر هذا النزاع في طريق خطي متصاعد إلى حيث اكتمال ملامح مدرستين في التفسير هما: مدرسة الرأي المعتمدة على العقل في التأويل، ومدرسة الأثر المستندة إلى النقل.

ولو عدنا إلى أحد التفاسير المبكرة والمعتمدة كتفسير الطبري لاتّضح بجلاء أن التربة الفكرية التي نزل فيها القرآن كانت مؤهلة لاستثارة مشكل التأويل، فقد اختلف المسلمون الأوائل (السلف) في تفسير قوله تعالى: ?هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا? (آل عمران:7)، على رأيين:

واحد يقصر معرفة تأويل القرآن على الله تعالى، ولا يشرك معه أحداً في العلم بذلك التأويل، وأما الثاني فيشرك مع الله الراسخين في العلم من العلماء، ونحن لا يهمنا هنا اعتماد موقف معين أو نصرته، ولكن المقصود أولاً فهم أسباب هذا الخلاف، والتدليل على توافر أرضية صلبة ومناسبة لنشأة السجال حول التأويل منذ عهد مبكر من عمر الرسالة الخاتمة.

فقد ذهب أصحاب الرأي الأول إلى أن جملة "?وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ?" مستأنفة على الابتداء ويلزم الوقف عند القراءة على كلمة "?الله?"، وهو بهذا يفردون الله بمعرفة تأويل القرآن، وقد أورد الطبري أقوال أصحاب هذا الرأي من الصحابة كعائشة رضي الله عنها، وابن عباس،22 ومن العلماء كالإمام مالك بن أنس.23 ومُثّل لأصحاب الرأي الثاني –الذي مفاده إشراك العلماء مع الله في الحكم أي معرفة التأويل- بابن عباس أيضاً!! ومجاهد ومحمد بن جعفر بن الزبير.24 والذي نستخلصه مما أورده الطبري أن الخلاف في الحقيقة دائر على مصطلح التأويل ومحتملاته في اللغة والاصطلاح، فالتأويل الوارد في سياق الآية يشير إلى معانٍ مختلفة، ولهذا نجد الإمام الطبري يثبت هذه المعاني دون إظهار الخيط الرابط بينهما، ولو

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015