فعل ذلك لاتّضح سبب الخلاف ومآله بين الاتجاهين.

- فالمعنى الأول أشار إليه حين قال: "اختلف أهل التأويل في معنى "التأويل" الذي عنى الله جلّ ثناؤه بقوله: ?وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?، فقال بعضهم: معنى ذلك الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء أمر محمد ?، وأمر أمته من قبل الحروف المقطعة من حساب الجمل مثل: ?الم?، و?المص?، و?الر?، و?المر?، وما أشبه ذلك من الآجال."25 فمعنى التأويل هنا هو العاقبة، واستدل على هذا المعنى بما روي عن ابن عباس رضي الله عنها من أن التأويل تأويل يوم القيامة،26 وما روي عن السدي ? الذي قال: "وتأويله عواقبه".27

- والمعنى الثاني قال عنه الطبري: "وقال آخرون: معنى ذلك وابتغاء تأويل ما تشابه منآي القرآن يتأولونه إذا كان ذا وجوه وتصاريف في التأويلات على ما في قلوبهم من زيغ وما ركبوه من الضلالة."28

فالخلاف في تفسير الآية بين الصحابة والعلماء إذاً خلاف لفظي، والسبب راجع إلى حمل التأويل على بعض محتملاته في اللغة والاصطلاح دون بعض. فإذا كان التأويل هو التفسير والمرجع والمصير،29 فإن القول بقدرة العلماء على تأويله بالمعنى الثاني الذي هو العاقبة ومعرفة الغيب –وهي أشياء اختص الله تعالى بعلمها ويمتنع عقلاً وشرعاً وجود شريك له فيها- جنوح عن المقصود، وحمل للمصطلح على غير مدلوله، وهو ما لا يجوز اختلاف المسلمين حوله، بله الصحابة الكرام والتابعين وعلماء الأمة. ولهذا نستطيع –مطمئنين- استبعاد إرادة هذا المعنى من لدن من أشرك مع الله غيره في معرفة التأويل، كما سنتمكن من فك التعارض الوارد في الروايتين اللتين ساقهما الطبري عن ابن عباس والتين بمقتضاهما يكون رأي ابن عباس ممثلاً للاتجاهين معاً في وقت واحدٍ، وهذا في غاية التناقض، إذ لم نضع في الاعتبار اختلاف الفهم لمصطلح التأويل فمن المؤكد أن ابن عباس رضي الله عنهما لا يجرؤ أن يدعي معرفة التأويل الذي هو المصير والعاقبة، ولهذا روي عنه نفي الاشتراك مع الله في معرفة هذا النوع من التأويل30 غير أنه من الراجح أن يأنس في نفسه القدرة على معرفة التأويل الذي معناه التفسير او الترجيح بين معاني الألفاظ والتراكيب، ولهذا روي عنه قوله: "أنا ممن يعلم تأويله".31 ومن هنا نستنتج أن الخلاف في مفهوم التأويل كان خلافاً لفظياً في أغلب جوانبه اللهم إلاّ ما كان متعلقاً بالتأويل الاعتقادي الكلامي، ولا نجازف إذا قلنا إن الاتفاق على معاني التأويل الثلاثة: التوضيح والترجيح والتصيير كان حاصلاً من حيث المضمون إذ استثمر المفسرون بالمأثور أيضاً الترجيح المعتمد على الاستدلال، ولم يغفل المفسرون بالرأي أهمية التوضيح في ضبط المعنى فاعتمدوا أيضاًُ على الإسناد العقلي. أما الخلاف الحقيقي فلم يكن مجترحاً في هذا المجال بل كان مرتبطاً بمجال توظيف عملية التأويل وكيفية هذا التوظيف.

* المعنى التاريخي وانحسار التأويل:

نقصد بالمعنى التاريخي ( Historical meaning) مجمل المعاني التي استنبطها المفسرون الأوائل كالصحابة والتابعين والعلماء بعدهم، والتي مثلت إطاراً دلالياً للغة القرآنية. غير أن المعنى التاريخي يثير كثيراً من المشكلات في الفهم والتفسير المتجدد للنص، إذ يؤدي الارتكاز عليه وحده إلى السقوط في تعارض بين التأطير التاريخي للمعنى القرآني وبين صلاحيته لكل زمان ومكان ومن جهة أخرى يؤدي ذلك إلى الوقوع في وهم المطابقة بين الكلام المفسر والكلام المفسَّر في التنزيه والقدسية. والواقع أن رهن المعنى في دلالته التاريخية مثَّل خطراً على الفكر الإسلامي، وعلى النصّ القرآني في حد ذاته، إذ جرد كلام الله تعالى من الشهادة الخالدة على الناس، والتحرك الإيجابي مع صيرورة التاريخ البشري. لقد كانت دوافع أصحاب هذا الاتجاه مفهومة، إذ واجهوا تياراً لا يقل خطورة على النص منهم، وهو تيار غالى في تجاهل المعنى التاريخي وأنتج تأويلات شاذة بعيدة عن مقصدية المبدع المنزل.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015