قال ابن كثير في تعليقه على أقوال المفسرين في معنى المهيمن:» وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها، وتكفل بحفظه بنفسه الكريمة «[44].

وانطلاقا من هذا الأصل القرآني على المحاور المسلم - وهو يحاور الآخر - أن يكون واعيا لما يقبل وما يرفض أثناء الحوار من آراء الطرف المقابل وميزانه في ذلك كله القرآن الكريم، فالقرآن بناء على الآية الكريمة بالنسبة لما قبله من الكتب "مؤيد لبعض ما في الشرائع، مقرر له من كل حكم كانت مصلحته كلية لم تختلف باختلاف الأمم والأزمان، وهو بهذا الوصف مصدق أي محقق ومقرر، وهو أيضا مبطل لبعض ما في الشرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كل ما كانت مصالحه جزئية مؤقتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصة «[45].

ولا شك أن إدراك المحاور المسلم لهذه الحقيقة واستشعاره لأبعادها قبل الحوار وأثناء الحوار وخلال التدرج في منعطفاته يمنعه من الوقوع في منزلق تقديم التنازلات والتقارب مع الآخر ومجاملته على حساب المبادئ والثوابت التي لا يملك أحد – كائنا من كان – التفريط فيها، فالقرآن هو الصورة الأخيرة لدين الله – عز وجل – وله المرجعية العليا في كل شيء من عقيدة وشريعة ونظام ومنهج، ويجب رد كل اختلاف إلى القرآن ليقول فيه الكلمة الأخيرة، سواء كان هذا الاختلاف في التصورات العقدية بين أتباع الديانات السماوية، أو في الشريعة التي جاء القرآن بصورتها الأخيرة، أو كان هذا الاختلاف داخليا بين المسلمين أنفسهم، ولا قيمة لآراء الناس ما لم تستند إلى هذا المرجع الأخير [46].

4 - معرفة دائرة الحوار:

من الأصول والضوابط القرآنية للحوار ألا يكون موضوع الحوار قضايا ثابتة في الدين بهدف إعادة النظر فيها، فالحوار ليس من قبيل الترف الفكري وحب الاستطلاع حتى يخوض المتحاورون في كل شيء، فثمة قضايا ومسائل لا يجوز الخوض فيها بحوار أو جدال، إما بسبب محدودية العقل البشري إزاءها، أو بسبب عدم ترتب أي ثمرة علمية أو عملية من ورائها، أو لأنها محسومة أساسا بنص شرعي أو إجماع، وهذا الأصل مبني على آيات مثل قوله تعالى: ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ? [47].

ومن القضايا التي ليست محل الحوار والجدال البحث في ذات الله تعالى، فهذا منهي عنه شرعا؛ لأن ذلك من باب القول في شيء بلا علم، والعلم شرط أساسي من شروط الحوار، قال تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً? [48].

ومن الأمور التي لا تدخل في دائرة الحوار مع الآخر غير المسلم، المسائل التي حكم الله تعالى ورسوله فيها بنص محكم جلي أو أجمع عليها علماء الإسلام، وبالجملة كل ما يحرم الحديث فيه شرعا لا يجوز الحوار والجدال مع الآخر غير المسلم في شأنه، ومن هنا فجميع الأحكام والثوابت الدينية تخرج عن دائرة الحوار لأجل إعادة النظر فيها أو تقويمها أو تغييرها [49].

وبناء على هذا الأصل لا يمكن للمحاور المسلم أن يحاور الآخر غير المسلم في مسائل مثل الإيمان بربوبية الله تعالى، والعبودية له جل وعلا، وكونه تعالى متصفا بجميع صفات الكمال، وتنزيهه عن جميع صفات النقص، وكذلك نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكون القرآن وحيا منزلا من عند الله – عز وجل - ووجوب الحكم بما أنزل الله، وحرمة الربا والخمر والزنا، وحجاب المرأة، وإقامة الحدود الشرعية فكل هذه القضايا ثابتة ومقطوع بها في الإسلام، لذلك لا يجوز أن تكون محل الحوار والجدال بهدف إعادة النظر أو التعديل فيها، قال تعالى: ?الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ? [50]، فعلى سبيل المثال الحكم بما أنزل الله منصوص عليها بآيات كقوله تعالى: ?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ? [51].

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015