فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا» (وَجَاءَ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «هَلْ تَدْرُونَ مَنْ السَّابِقُ إلَى ظِلِّ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ وَإِذَا حَكَمُوا لِلْمُسْلِمِينَ حَكَمُوا كَحُكْمِهِمْ» .

(وَفِي الْحَدِيثِ) «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ إمَامٌ عَادِلٌ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

(وَاعْلَمْ) أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الْجَوْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَفِي حَقِّ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) اهـ.

بِاخْتِصَارٍ، وَقَوْلُهُ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ الْقَضَاءِ: وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ لَيْسَ هُوَ غَلَطًا وَإِنَّمَا هُوَ نَظَرٌ لِلْغَالِبِ الَّذِي هُوَ كَالْمُحَقَّقِ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ وَاحِدَةٌ وَمَا جَازَ عَلَى الْمِثْلِ يَجُوزُ عَلَى مُمَاثِلِهِ، وَالْعَيْبُ يَحْدُثُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَالْإِمَارَةِ وَالْمَيْلِ لِلنَّفْسِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ وَمَنْ يُعَامِلُهَا بِخَيْرٍ فَالتَّحْذِيرُ مِنْ الْقَضَاءِ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَتَقْدِيمِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَمِنْ بَابِ قَوْلِ الْقَائِلِ:

إنَّ السَّلَامَةَ مِنْ سَلْمَى وَجَارَتِهَا ... أَلَّا تَحِلَّ عَلَى حَالٍ بِوَادِيهَا

(وَقَدْ سَمِعْت) مِنْ بَعْضِ أَشْيَاخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَمِيرًا وَلَّى إنْسَانًا خُطَّةَ الْحِسْبَةِ ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ طَلَبَ مِنْ الْأَمِيرِ أَنْ يُخَلِّيَهُ عَنْ تِلْكَ الْخُطَّةِ وَيُوَلِّيَهَا لِغَيْرِهِ فَقَالَ لَهُ: لِمَ؟ فَقَالَ: إنَّ النَّاسَ يُهْدُونَ لِي وَيُعَامِلُونَنِي بِخَيْرٍ لَمَّا تَوَلَّيْت وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَحْكُمَ عَلَى مَنْ يُعَامِلُنِي بِخَيْرٍ بِمَا يَكْرَهُ فَانْظُرْ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ الْمَوْجُودُ غَالِبًا وَأَمَّا مَنْ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً وَلَا يَمِيلُ لِغَرَضٍ وَلَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ فَهُوَ قَلِيلٌ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَهُوَ مِمَّا يُسْمَعُ بِهِ وَلَا يُرَى تَغَمَّدَ اللَّهُ الْجَمِيعَ بِرَحْمَتِهِ

وَاسْتُحْسِنَتْ فِي حَقِّهِ الْجَزَالَةُ ... وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ وَالْعَدَالَةُ

وَأَنْ يَكُونَ ذَكَرًا حُرًّا سَلِمْ ... مِنْ فَقْدِ رُؤْيَةٍ وَسَمْعٍ وَكَلِمْ

وَيُسْتَحَبُّ الْعِلْمُ فِيهِ وَالْوَرَعْ ... مَعَ كَوْنِهِ الْحَدِيثَ لِلْفِقْهِ جَمَعْ

ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ بَعْضَ شُرُوطِ الْقَاضِي، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا صِفَاتٌ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِهِ وَقَسَّمَهَا إلَى قِسْمَيْنِ: شُرُوطُ صِحَّةٍ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا أَوْ عَدَمِ وَاحِدٍ مِنْهَا عَدَمُ صِحَّةِ وِلَايَتِهِ، وَشُرُوطُ كَمَالٍ تَصِحُّ وِلَايَتُهُ بِدُونِهَا لَكِنْ الْأَوْلَى وُجُودُهَا فَذَكَرَ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ التَّكْلِيفَ وَالْعَدَالَةَ وَالذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ وَكَوْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا.

وَمِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ الْجَزَالَةَ وَالْعِلْمَ وَالْوَرَعَ، وَجَمْعَهُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ فَاشْتَرَطَ فِيهِ التَّكْلِيفَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى شَرْطَيْ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ وَغَيْرَ الْبَالِغِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمَا قَلَمٌ وَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمَا خِطَابٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ عَلَى نَفْسِهِ فَأَوْلَى عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يُكْتَفَى فِي شَرْطِ الْعَقْلِ بِالْعَقْلِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ بِهِ التَّكْلِيفَ مِنْ عِلْمِهِ بِالْمُدْرِكَاتِ الضَّرُورِيَّاتِ بَلْ حَتَّى يَكُونَ صَحِيحَ التَّمْيِيزِ جَيِّدَ الْفِطْنَةِ بَعِيدًا مِنْ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ؛ حَتَّى يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى وُضُوحِ مَا أَشْكَلَ وَفَصْلِ مَا أَعْضَلَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاشْتَرَطْتُ فِيهِ الْعَدَالَةَ الْمُسْتَلْزِمَةَ لِشَرْطِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.

وَالْوِلَايَةُ مِنْ أَعْظَمِ السَّبِيلِ؛ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْأَحْكَامِ وَلَا مَوْثُوقٌ بِهِ فِي اجْتِنَابِ الْأَغْرَاضِ وَيَأْتِي أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ مَنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ وَيَتَّقِي فِي الْغَالِبِ الصَّغَائِرَ وَالْمُبَاحَ الَّذِي يَقْدَحُ فِي الْمُرُوءَةِ كَالْأَكْلِ فِي السُّوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاشْتَرَطْتُ فِيهِ الذُّكُورَةَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْعٌ عَنْ الْإِمَامَةِ، الْعُظْمَى وَوِلَايَةُ الْمَرْأَةِ الْإِمَامَةَ مُمْتَنِعٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» فَكَذَلِكَ النَّائِبُ عَنْهُ لَا يَكُونُ امْرَأَةً.

وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْصِبُ الْوِلَايَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لِلنِّسَاءِ وَاشْتُرِطَتْ الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ بَقِيَّةُ أَثَرِ الْكُفْرِ وَالنُّفُوسُ تَأْنَفُ مِنْ الِانْقِيَادِ لِمَنْ عَلَيْهِ رِقٌّ وَالْإِذْعَانِ لِمَنْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ لِسِوَاهُ مِلْكٌ (قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ) : وَإِذَا كَانَ نَقْصُ الرِّقِّ مَانِعًا مِنْ وِلَايَةِ نَفْسِهِ فَأَحْرَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ إنْفَاذِ وِلَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّ الرِّقَّ لَمَّا مَنَعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَانْعِقَادِ الْوِلَايَةِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ مِنْ مُدَبَّرٍ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015