نَاقِلًا عَنْ الْقَرَافِيِّ الْحَاكِمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَاكِمٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْإِنْشَاءُ وَأَمَّا قُدْرَةُ التَّنْفِيذِ فَأَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ حَاكِمًا فَقَدْ يُفَوَّضُ لَهُ التَّنْفِيذُ وَقَدْ لَا يَنْدَرِجُ فِي وِلَايَتِهِ اهـ. (وَاعْلَمْ) أَنَّ النَّاظِمَ بَوَّبَ لِلْقَضَاءِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ الْحُكْمُ وَأَشَارَ لَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ

مُنَفِّذٌ بِالشَّرْعِ لِلْأَحْكَامِ

فَتَرْجَمَ لِلْمَصْدَرِ وَذَكَرَ مَكَانَهُ اسْمَ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ مَوْجُودٌ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَأَصْلٌ لَهُ فَهُوَ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالْأَصْلِ عَنْ الْفَرْعِ كَقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الِابْتِدَاءِ:

مُبْتَدَأٌ زَيْدٌ

وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إلَّا أَوْصَافَ الْقَاضِي الَّتِي بَعْضُهَا شَرْطُ صِحَّةٍ وَبَعْضُهَا شَرْطُ كَمَالٍ أَوْ شَرْطٌ فِي دَوَامِ وِلَايَتِهِ وَمَوْضِعِ جُلُوسِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

مُنَفِّذٌ بِالشَّرْعِ لِلْأَحْكَامِ ... لَهُ نِيَابَةٌ عَنْ الْإِمَامِ

يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ الْمُنَفِّذُ لِلْأَحْكَامِ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ وَمُوَافَقَتِهِ، وَأَنَّ لَهُ نِيَابَةً عَنْ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ (فَمُنَفِّذٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ الْقَاضِي مُنَفِّذٌ، (وَلِلْأَحْكَامِ) يَتَعَلَّقُ بِمُنَفِّذٌ وَكَذَا بِالشَّرْعِ (وَلَهُ نِيَابَةٌ) خَبَرٌ وَمُبْتَدَأٌ سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ الْعَمَلُ فِي عَنْ الْإِمَامِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ، وَالرَّابِطُ لِجُمْلَةِ الْخَبَرِ بِالْمُبْتَدَأِ ضَمِيرُ (لَهُ) وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَوْلَى مِنْ إعْرَابِ مُنَفِّذٌ مُبْتَدَأً.

وَجُمْلَةُ (لَهُ نِيَابَةٌ) خَبَرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ هُوَ التَّعْرِيفُ بِالْقَاضِي وَأَنَّهُ الْمُنَفِّذُ لِلْأَحْكَامِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ نَائِبًا عَنْ الْإِمَامِ فَزَائِدٌ عَنْ الْمَقْصُودِ. وَهْبُهُ مَقْصُودًا أَيْضًا فَدَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى فَائِدَتَيْنِ كَمَا يَقْتَضِيه الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى وَاحِدَةٍ كَمَا يَقْتَضِيه الْإِعْرَابُ الثَّانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ نِيَابَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّ لِلْإِمَامِ عَزْلَهُ مَتَى شَاءَ لِسَبَبٍ وَلِغَيْرِ سَبَبٍ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِيمَنْ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ وَوَكَّلَهُ عَلَى أَمْرٍ بَدَا لَهُ فَلَهُ عَزْلُهُ بِخِلَافِ مَنْ أَوْصَى لَهُ الْإِمَامُ بِالْخِلَافَةِ وَقَبِلَ فَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ وَسَائِرَ الْعُمَّالِ إنَّمَا وَلَّاهُمْ لِيَنُوبُوا عَنْهُ فِي بَعْضِ الْكُلَفِ وَالْأَشْغَالِ الَّتِي عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَيَنُوبُوا عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ وَلَا كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِلرَّجُلِ يَكُونُ بَعْدَهُ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ فَهَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ جَعْلُ غَيْرِهِ يَنُوبُ عَلَيْهِ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ حَكَمَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ نَافِذَةٌ قَالَهُ الْمَازِرِيُّ اهـ. مِنْ الْفُرُوقِ لِلْإِمَامِ سَيِّدِي أَحْمَدَ الْوَنْشَرِيسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ) حَقِيقَةُ الْقَضَاءِ الْإِخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ (قَالَ غَيْرُهُ) وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: قَضَى الْقَاضِي، أَيْ أَلْزَمَ الْحَقَّ أَهْلَهُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14] أَلْزَمْنَاهُ وَحَتَمْنَا بِهِ عَلَيْهِ (وَفِي الْمَدْخَلِ) لِابْنِ طَلْحَةَ الْأَنْدَلُسِيِّ الْقَضَاءُ مَعْنَاهُ: الدُّخُولُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ لِيُؤَدِّيَ فِيهِمْ أَوَامِرَهُ وَأَحْكَامَهُ بِوَاسِطَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ حَقِيقَةُ الْحُكْمِ إنْشَاءُ إلْزَامٍ أَوْ إطْلَاقٍ، فَالْإِلْزَامُ كَحُكْمِهِ بِالنَّفَقَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالصَّدَاقِ وَنَحْوِهَا.

وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِطْلَاقِ فَكَمَا إذَا حَكَمَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ أَرْضٍ زَالَ الْإِحْيَاءُ عَنْهَا وَأَنْ تَبْقَى مُبَاحَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، وَحَكَمَ بِزَوَالِ مِلْكِ الصَّائِدِ عَنْ صَيْدٍ نَدَّ مِنْهُ وَحَازَهُ ثَانٍ.

وَحُكْمُهُ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى أَحَدٍ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ عِوَضٌ، وَقَدْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ قِيلَ: أَيُجْبَرُ بِالضَّرْبِ وَالسِّجْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَحِكْمَتُهُ رَفْعُ التَّشَاجُرِ وَرَدُّ الثَّوَابِتِ وَقَمْعُ الظَّالِمِ وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ وَقَطْعُ الْخُصُومَاتِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَغَيْرُهُ ا. هـ. وَقَدْ اشْتَمَلَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَضَاءِ وَمَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ ثُمَّ قَالَ فِي التَّبْصِرَةِ: (وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤَلِّفِينَ بَالَغُوا فِي التَّحْذِيرِ مِنْ الدُّخُولِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ حَتَّى تَقَرَّرَ فِي ذِهْنِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّلَحَاءِ أَنَّ مَنْ وُلِّيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ سَهُلَ عَلَيْهِ دِينُهُ وَأَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ.

وَالْوَاجِبُ تَعْظِيمُ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ وَمَعْرِفَةُ مَكَانَتِهِ مِنْ الدِّينِ فِيهِ بُعِثَتْ الرُّسُلُ وَبِالْقِيَامِ بِهِ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَجَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ النِّعَمِ الَّتِي يُبَاحُ الْحَسَدُ عَلَيْهَا (فَقَدْ جَاءَ) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015