وأن تتبعنا بعد ذلك سياق الأجيال منحدرين إلى أوائل النصرانية لا نجد ذكراً للغة العربية إلا بعض تقاليد مستحدثة رواها الرواة بعد الإسلام لا يوثق بها. ولسنا لننكر أن العرب في تلك الأثناء تكلموا بلغة خاصة لكن تلك اللغة كانت تختلف اختلافاً عظيماً في كل قبيلة على اختلاف مواقعها في أنحاء الجزيرة وتأثير اللغات المجاورة لها وحالة المتكلمين بها من أهل حضر أو أهل المدر فيطلقون على كل هذه اللهجات اسم اللغة العربية كما يطلقون اسم العرب على أهل الجزيرة مع اختلاف عناصرهم القحطانية والعدنانية والإسمعيلية.

ولعل بعض أعمالها دونوا شيئاً من مآثر لغتهم فأخذتها أيدي الضياع. ومن الشواهد الحسنة التي يمكننا أن نثبت بها قولنا كتابة حجرية وجدت في رومية سنة 1773 راقية إلى أوائل القرن الثاني للمسيح في عهد تراجانوس القيصر. وهذه الكتابة لاتينية كتبها وراق عربي اسمه مرقس أو لييوس كستوراس كان رافق حملتي الرومانيين في غالية وفي سورية فجعلها على ضريح رجل اسمه مرقس أو لييوس سيمفورس كان معه في الحملتين: M. ULPIUS SYMPHOUS VIXIT صلى الله عليه وسلمNNIS XXIV ... ULPIUS Cصلى الله عليه وسلمSTORصلى الله عليه وسلمS LIرضي الله عنهRصلى الله عليه وسلمRIUS صلى الله عليه وسلمRصلى الله عليه وسلمرضي الله عنهICUS رضي الله عنهصلى الله عليه وسلمNصلى الله عليه وسلم Mصلى الله عليه وسلمRصلى الله عليه وسلمNTI QUOعز وجل IS صلى الله عليه وسلمXPصلى الله عليه وسلمعز وجلITIONIرضي الله عنهUS عز وجلUصلى الله عليه وسلمرضي الله عنهUS Gصلى الله عليه وسلمLLصلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلمT SYRIصلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم Sصلى الله عليه وسلمCUM FUصلى الله عليه وسلمRصلى الله عليه وسلمT فذكر وراق أو كاتب عربي في ذلك العصر من الأمور الغريبة التي تثبت ما كان للعربي من شأن في تلك الأيام. ولكن ما هي تلك العربية التي يشار إليها أهي عربية قريش؟ أو النبطية أو الحميرية أو لغة قبائل الشام الخاضعة للرومان؟ كل ذلك محتمل ولا يمكن بت الحكم به. وما لا شك فيه أن ذلك الكاتب لم يخط كتاباته بالقلم العربي الذي برز للوجود في أواسط القرن السادس للمسيح فقط. وإنما كانوا يكتبون قبل ذلك بأقلام لغات أخرى أخصها في جنوبي جزيرة العرب الحميرية والمينوية وفي الشمال بالنبطية والثمودية واللحيانية والصفوية وقد وجدت من كل هذه الخطوط أمثال مختلفة في جهات العرب يرقى بعضها إلى ما قبل المسيح.

وقد سبق لنا القول أن أقدم كتابة تقرب لهجتها من عربية قريش هي الكتابة الضريحية التي وجدت في جهات الصفا على قبر ملك العرب امرئ القيس بن عمرو وتاريخها في 7 من شهر كانون الأول سنة 328 للمسيح. وهي مكتوبة بالحرف النبطي الجميل أوردنا سابقاً رسمها. أما لغتها فمع قربها من لغة قريش أي لغتنا الفصحى لا تزال مضطربة مشوشة مختلطة بألفاظ غريبة.

فإن كان المنثور في القرن الرابع للمسيح على هذه الصورة فما قولنا بالموزون؟ ولنا هنا أيضاً شاهد صادق على أن العرب في ذلك الجيل لم يجهلوا الشعر. وهو لا حد المعاصرين المؤرخ اليوناني سوزومان فأنه في تاريخه الكنسي في الفصل الثامن والثلثين منه يذكر محاربة ماوية ملكة عرب الشام للرومانيين وانتصارها على جيوشهم ثم تنصرها وتنصر قومها على يد أحد السياح المدعو موسى. فهناك يصرح المؤرخ بما شاع من الأغاني الحماسية بين رعايا ماوية يعددون فيها مآثرهم وغاراتهم على الرومان وهذا نصه: Haec ita gesta multi ex earum regionum incolis etiamnum comme - morant et apud Saracenos vulgo cantibus celebrantur.

وما يقوله المؤرخ سوزومان عن الأغاني الحماسية يجوز أن نطلقه على بقية أمورهم كالأفراح والأحزان والمديح والغزل والفخر لأن الغناء غريزة في الإنسان. ولكن يا ترى ماذا كانت أوزان تلك الأغاني؟ كم كانت أجزاؤها؟ كيف كان إيقاعها؟ وهل كانت لغتها فصيحة كلغتنا أو بالأحرى كانت لهجة خاصة لتلك القبائل؟ إننا نجهل كل ذلك.

فلكي نستطيع أن نبني كلامنا على أساس متين لا بد أن نتقرب إلى زماننا بزهاء مائتي سنة أعني إلى أوائل القرن السادس للمسيح فإن الشعر العربي الموزون ذا الأبحر المتعددة والإيقاع الثابت لا ترى آثاره قبل ذلك.

ويؤيد قولنا اتفاق كتبة العرب الأقدمين. قال الجاحظ في كتاب الحيوان (1: 27) : "أما الشعر فحديث الميلاد صغير السن أول من نهج سبيله وسهل الطرق إليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة ... فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015