وذكر السيوطي في المزهر (2: 238) لعمر بن شبة في طبقات الشعراء قوله: "وهؤلاء النفر المدعى لهم التقدم في الشعر متقاربون لعل أقدمهم لا يسبق الهجرة بمائة سنة أو نحوها".

على أن هذا القول يصح في القصائد المطولة ليس في الأبيات القليلة التي لعل بعضها يرتقى إلى أواسط القرن الخامس. قال محمد بن سلام الجمحي في طبقات الشعراء (ص 18) : "لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف".

فيبقى البحث عن تلك الأبيات المفردة والقليلة فكيف اهتدى إلى نظمها العرب؟ هل ابتكروها دون علم سابق؟ أو حذوا فيها حذو غيرهم من الأمم المجاورة لهم كالحبش والروم والسريان؟ قلنا أن الغناء غريزة في الإنسان والغناء يحتاج إلى بعض الوزن والإيقاع فلما أراد الناطقون بالعربية المحضة وهي عربيتنا التي أخذت بالثبات في القرن الخامس للمسيح ابتدأوا بالتعبير عن عواطفهم واحساساتهم في الحب والتحمس والغضب والوصف بما يقرب من الشعر الموزون أعني بالكلام المسجع الذي روى منه الرواة الأقدمون بعض المقاطيع كان يرتجلها الكهان والعرافون وبعض القوالين. فمن أقدم ما رووا من ذلك قول ظريفة الخير الكاهنة تنذر زوجها الملك عمراً بسيل العرم (المسعودي في مروج الذهب 3: 379) : "ما رأيت اليوم. قد ذهب عني النوم. رأيت غيماً أبرق. وأرعد طويلاً ثم أصعق. فما وقع على شيء إلا احترق. فما بعد هذا ألا الغرق". (وقالت ص 382) : "هي داهية ركيمة. ومصيبة عظيمة. بأمور جسيمة ... أن لي فيها الويل. مما يجيء به السيل ... خطب جليل. وحزن طويل. وخلف قليل. وعد من الله نزل. وباطل بطل. ونكال بنا نكل. فبغيرك يا عمرو فليكن الثكل".

فترى في هذه الأقوال أسجاعاً متتالية بينها شيء من الموازنة فانتقلوا منها إلى أبسط البحور وهو الرجز فلزموا التقفية كلزومهم الأسجاع في المنثور وراعوا فيه عدد الأجزاء والوزن قول دويد بن زيد ين نهد حين حضره الموت:

اليوم يبنى لدويدٍ بيتهُ ... لو كان للدهر بلىً أبليتهُ

أو كان قرني واحداً كفيتهُ ... يا ربَّ نهبٍ صالحٍ حويتهُ

وربَّ غيلٍ حسنٍ لويتهُ

وقول امرئ القيس إذ بلغه خبر قتل أبيه بدمون في نواحي اليمن:

تطاولَ الليل علينا دمُّونْ ... دمُّونُ أنَّا معشرٌ يمانونْ

وأنّنا لقومنا محبُّونْ

ومثله لكليب أخي المهلهل وتروى لطرفة ارتجز بها إذ رأى قنابر تلتقط حباً ينثر لها:

يا لكِ من قبرةٍ بمعمرِ ... خلاَ لكِ الجوُّ فبيضي واصفري

قد رفع الفخُّ فماذا تحذري ... ونقّري ما شئت أن تنقّري

قد ذهب الصياَّد عنكِ فابشري ... لا بدَّ يوماً أن تصادي فاصبري

فإن كان السجع والرجز المذكوران هما كما يظهر أصل الشعر العربي ترتقي آثارهما إلى أوائل القرن السادس أو أواخر الخامس فيجب البحث عن أمة مجاورة للعرب أمكنهم أن يتقلدوها في سجعهم ورجزهم السابقين. وأننا نرى أن تلك الأمة كانت الأمة الآرامية أي الكلدان والسريان الذين كانوا منذ أواسط القرن الرابع بعد تنصرهم زينوا كلامهم المنثور بالسجع والفواصل ونظموا شعراً يقرب من أراجيز العرب. ولما كان الآراميون يستوطنون حدود العرب وكثيراً ما امتزجوا بهم امتزاج الماء بالراح وبنوا في جزيرتهم العدد العديد من الأديرة والمناسك حيث كان الرهبان يتغنون بالتسابيح ويحيون لياليهم بالأناشيد الروحية فيسمعهم أهل البادية ويرددون نغماتهم فتبعثهم على الاقتداء بهم كما فعلوا بعد ذلك في تجويد القرآن على ما أثبتنا سابقاً. فلا نشك أن العرب أخذوا أيضاً عن نصارى السريان والكلدان تسجيع الكلام وموازينه الشعرية البسيطة كما ترى في الأراجيز العربية. ولعل القبائل القريبة من الروم وجدت أيضاً في تلحينهم وغنائهم وشعرهم ما دفعهم إلى التشبه بهم في آدابهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015