ولعل هؤلاء الأطباء درسوا كتاب ديسقوريدس العين زربي اليوناني في النبات والحشائش والأدوية المفردة في أصله اليوناني وعليه كان المعول في الطب القديم. أما ترجمته العربية فكان النصارى أيضاً أول المقدمين عليها. قال ابن جلجل (في طبقات الأطباء 2: 46_48) : "أن كتاب ديسقوريدس ترجم بمدينة السلام في الدولة العباسية في أيام جعفر المتوكل وكان المترجم له اصطفن بن بسيل الترجمان من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي وتصفح ذلك حنين بن إسحاق المترجم فصحح الترجمة وأجازها". ثم قال ما خلاصته أن اصطفن كان أبقى أسماء كثيرة من النباتات على لفظها اليوناني لجهله ما يوافقها في اللسان العربي. وبقي الأمر كذلك إلى أن أرسل ملك الروم إلى صاحب الأندلس الملك الناصر عبد الرحمان نسخة من كتاب ديسقوريدس مع صور الحشائش بألوانها ثم أرسل إليه راهباً يدعى نيقولا جاء إلى قرطبة سنة 340هـ (951م) وأعاد النظر في ترجمة اصطفن فصححها ووضع للنباتات أسماءً عربية موافقة لها وذلك بصحبة أطباء وجدهم هناك ذوي معرفة بالنباتات والعقاقير فصارت هذه الترجمة هي المعول عليها واستفاد منها ابن جلجل وابن البيطار في تآليفها عن المفردات. ثم كان لجالينوس أيضاً تأليف في النبات عربه حنين بن إسحاق.

(علم النجوم) إن صفاء أديم السماء في أنحاء جزيرة العرب في معظم ليالي السنة لمما ألفت أنظار أهلها إلى ما زين به الله الأفلاك من النجوم والكواكب والسيارات فعرفوها منذ سالف الأعصار ودلوا إليها بأسماء شاعت بعدئذ بين الأمم الغربية وهي لا تزال إلى اليوم جارية على لفظها العربي بين أرباب الفلك. وكان مما يبعث همتهم إلى رصد الفلك ومراقبة النجوم حاجتهم إليها ليهتدوا بها في أسفارهم وهم قوم رحّل يقطعون البراري والأقفار. ومنهم القوافل التي كان عليها المعتمد في المواصلات بين الهند وفارس وسواحل الشام. وكانوا استفادوا شيئاً كثيراً من ذلك بمجاورتهم للكلدان الذين سبقوا جميع الأمم في علم الفلك. فأخذوا عنهم علم الأنواء الجوية وحركات السيارات ومنازل القمر ومنطقة البروج. وفي الشعر القديم آثار من ذلك.

ولنا شاهد في سفر أيوب على معرفة العرب لأسماء النجوم وحركاتها في الفلك إذ كان أيوب النبي عربي الأصل عاش في غربي الجزيرة العربية حيث امتحن الله صبره. وكذلك في المجوس الذين اهتدوا بالنجم إلى مذود السيد المسيح شاهد آخر على قولنا والمجوس على رأي كثيرين من الآباء من شيوخ العرب. على أن هذا العلم كبقية العلوم كان عند العرب عملياً ليس نظرياً. ريثما قام بينهم وفي جيرتهم من يبحث فيه بحثاً مدققاً. وكان السريان أول من فعلوا ذلك منهم برديصان المبتدع (راجع ترجمته في المشرق 18: 977) ومنهم سرجيوس الراس عيني ويعقوب الرهاوي وجرجس المعروف بأسقف العرب وساويرس سبوكت وغيرهم. وتآليفهم باقية إلى يومنا في خزان كتب أوربة الكبرى. منها ترجمتهم لعدة مصنفات يونانية لجالينوس ولاسيما لبطليموس القلوذي فإنهم نقلوا كتابه المجسطي وهو أفضل وأمتع كتاب وضعه اليونان في علم الهيئة. ثم تولى بعدهم تعريبه وتفسيره علماء النصارى أولهم حنين بن إسحاق ثم الحجاج بن يوسف بن مطر الكوفي وثابت بن قرة في عهد المأمون ثم عبد المسيح بن ناعمة الحمصي فأصبح مذ ذاك علم النجوم زاهراً في الإسلام.

(الفقه) هو علم الأحكام الشرعية العملية. ولم يكن للعرب أن يستغنوا عنه وهو إما ديني وإما مدني. وللنصارى في كليهما بعض الآثار بين عرب الجاهلية فأما الفقه الديني فكان نصارى العرب يتبعون أحكامه المنصوصة في المجامع الكنسية العمومية والخصوصية التي كان يعلن بها أساقفتهم في أنحاء الجزيرة. وكانت هذه الأحكام مكتوبة إما باللغة السريانية كما ترى في المجامع النسطورية التي نشرت بالطبع (راجع القسم الأول ص71) وإما باللغة اليونانية كالحقوق القانونية التي وضعها القديس جرجنسيوس رسول الحميريين بعد موت شهداء نجران (القسم الأول ص64) . وأما الفقه المدني فغلب على المتنصرين من بني غسان والقبائل المجاورة للفرات وما بين النهرين الفقه الروماني كما نظمه الملك يوستنيان. ولما جاء الإسلام أدخلوا كثيراً من أحكامه في الفقه الإسلامي كما بين ذلك العلماء الأوربيون.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015