وقد ذكر من الأطباء النصارى في صدر الإسلام عبد الملك ابن أبجر الكناني. قال فيه ابن أي أصيبعة (1: 116) : كان طبيباً عالماً ماهراً وكان مقيماً في أول أمره في الإسكندرية لأنه كان متولي التدريس بها من بعد الإسكندرانيين وذلك عند ما كانت البلاد في ذلك الوقت لملوك النصارى. ثم أن المسلمين لما استولوا على البلاد وملكوا الإسكندرية أسلم ابن أبجر على يد عمر بن عبد العزيز وكان حينئذ أميراً قبل أن تصل إليه الخلافة وصحبه. فلما أفضت الخلافة إلى عمر وذلك في صفر سنة 99 للهجرة نقل التدريس إلى أنطاكية وحران وتفرق في البلاد وكان عمر بن عبد العزيز يستطب ابن أبجر ويعتمد عليه في صناعة الطب.

واشتهر في الطب غير هؤلاء من نصارى العرب في أوائل الإسلام ذكر منهم القفطي وابن أبي أصيبعة الطبيب ابن الآثال. قال في طبقات الأطباء (1: 116) : "كان طبيباً متقدماً من الأطباء المتميزين في دمشق نصراني المذهب ولما ملك معاوية ابن أبي سفيان دمشق اصطفاه لنفسه وأحسن إليه وكان كثير الافتقاد له والاعتقاد فيه والمحادثة معه ليلاً ونهاراً وكان خبيراً بالأدوية المفردة والمركبة". وقد روى في الأغاني (15: 13) كيف قتله خالد بن المهاجر لأنه سقى بأمر معاوية سماً عمّه عبد الرحمن بن خالد.

واشتهر أيضاً في أيام معاوية الطبيب النصراني أبو الحكم الدمشقي. قال ابن أبي أصيبعة (1: 119) : "كان طبيباً نصرانياً عالماً بأنواع العلاج والأدوية وله أعمال مذكورة وصفات مشهورة وكان يستطبه معاوية ويعتمد عليه في تركيبات أدوية لأغراض قصدها منه. وعمّر أبو الحكم عمراً طويلاً حتى تجاوز المئة سنة". ثم ذكر ابنه الحكم وحفيده عيسى بن الحكم وجرى كلاهما على خطته متطببين وماتا في عهد الدولة العباسية.

ومن مشاهير الأطباء المسيحيين في أوائل الدولة الأموية تياذوق وثاودون "كان تياذوق طبيباً فاضلاً وله نوادر وألفاظ مستحسنة في صناعة الطب وكان في أول دولة بني أمية ومشهوراً عندهم بالطب. وصحب أيضاً الحجاج بن يوسف الثقفي المتولى من جهة عبد الملك بن مروان وخدمه بصناعة الطب وكان يعتمد عليه ويثق بمداواته وكان له منه الجامكية الوافرة والافتقاد الكثير. ومات تياذوق بعد ما أسن وكبر وكانت وفاته في أواسط في نحو سنة 90 للهجرة. وله من الكتب كنّاش كبير ألفه لابنه وكتاب أبدال الأدوية وكيفية دقها وإيقاعها وإذابتها" (ابن أبي أصيبعة 1: 121) . أما ثاودون فذكره ابن العبري في تاريخه (ص194) وذكر له ايضاً كناشاً ولم نجد له ذكراً في غيره.

فترى صدق قولنا في فضل النصارى العرب في فن الطب والمعالجات. أما فن الجراحة فزاولها رجل نصراني من تميم على عهد رسول الإسلام اسمه ابن أبي رمثة ذكره ابن أبي أصيبعة (1: 116) قال أنه كان مزاولاً لأعمال اليد وصناعة الجراحة وقد صحفه المرحوم جرجي زيدان في كتاب التمدن الإسلامي (3: 21) بابن أبي رومية.

(علم النبات) يُلحق العرب علم النبات بعلم الطب الذي يستمد منه مواده وأدويته وذلك ما يدعونه بالمفردات ومنها يستحضر الأطباء أدويتهم فيعدون المركبات. ولا جرم أن العرب في الجاهلية عرفوا كثيراً من النباتات التي تنمو في جزيرتهم وعلموا بالتجربة فوائدها الغذائية والعلاجية. والدليل عليه ما ورد في معاجمهم من أسماء النباتات التي جمع منها الأصمعي كتاباً دعاه كتاب النبات والشجر نشره الدكتور هفنر في مجموعنا المرسوم بالبلغة في شذور اللغة (ص17 62) ونشر أيضاً للأصمعي كتاب النخل والكرم (63 98) .

غير أن هذه اللغويات لا يحصل منها علم مفيد إلا بمعرفة خواص تلك المفردات ومنافع كل صنف من النبات. وقد أصبح النصارى في هذا العلم كما في علم قوماً وسطاً بين القدماء والعرب. فإن الأطباء الذي مر ذكرهم أن درسوا في مدارس الإسكندرية وجنديسابور اقتبسوا منها أيضاً علم النبات الصالح للطب والغذاء. والدليل عليه فصول أوردها ابن أبي أصيبعة وغيره من الكتبة للحارث بن كلدة فيها أوصاف للأدوية النباتية وللأشجار والأثمار والحشائش ذكرها في محاورة جرت له بينه وبين كسرى أنوشروان.

وكذلك تآليفهم التي دعوها بالكنّاشات وهي لفظة سريانية يراد بها المجاميع الطبية وأوصاف الأدوية المتخذة عموماً من النبات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015