قال الحميدي: وأخبرني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد قال: كان ابن أبي عامر يومًا جالسًا مع ثلاثة من أصحابه من طلبة العلم، فقال لهم: ليختر كل واحد منكم خطة أوليه إياها إذا أفضى إلي الأمر! فقال أحدهم: توليني قضاء كورة رَيَّة، وهي مالقة وأعمالها؛ فإنه يعجبني هذا التين الذي يجئ منها!

وقال الآخر: توليني حسبة السوق؛ فإني أحب هذا الإسفنج!

وقال الثالث: إذا أفضى إليك الأمر فأْمر أن يطاف بي قرطبة كلها على حمار ووجهى إلى الذَّنَب وأنا مطلي بالعسل ليجتمع علي الذباب والنحل!

وافترقوا على هذا؛ فلما أفضى الأمر إليه كما تمنى بلغ كل واحد منهم أمنيته على نحو ما طلب!

ولم تزل حاله تعلو منذ ورد قرطبة إلى أن تعلق بوكالة السيدة: صُبح أم هشام المؤيد ابن الحكم والنظر في أموالها وضياعها، فزاد أمره في الترقي معها إلى أن مات الحكم المستنصر؛ وكان هشام صغيرًا كما ذكرنا، وخِيف الاضطراب، فضمن لصبح سكون الحال وزوال الخوف واستقرار الملك لابنها. وكان قوي النفس، وساعدته المقادير، وأمدته المرأة بالأموال؛ فاستمال العساكر إليه، وجرت أحوال علت قدمه فيها، حتى صار صاحب التدبير والمتغلب على الأمور؛ وحجب هشامًا المؤيد، وتلقب هو بالمنصور، فأقام الهيبة، فدانت له أقطار الأندلس كلها وأمنت به، ولم يضطرب عليه شيء منها أيام حياته؛ لعظم هيبته وفرط سياسته.

واستوزر جماعة منهم الوزير أبو الحسن جعفر بن عثمان الملقب بالمصحفي، ومنهم الوزير الكاتب أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري1، ومنهم الوزير أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي2 الذي اختصر كتاب العين3 -وقد تقدم ذكره- وكان قد ولاه شرطته، وكان الزبيدي هذا من بطانة الحكم المستنصر ووجوه أصحابه.

واستوزر أبا العلاء صاعد بن الحسن الرَّبَعي4 اللغوي البغدادي، وله معه أخبار مستطرفة، ولعلي سأورد طرفًا منها فيما بعد -إن شاء الله تعالى-.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015