وكان محبًّا للعلوم مؤثرًا للأدب مفرطًا في إكرام من ينسب إلى شيء من ذلك ويفد عليه متوسلًا به، بحسب حظه منه وطلبه له ومشاركته فيه. ورد عليه الأندلس في أيام إمارته أبو العلاء صاعد بن الحسن الربعي المذكور آنفًا، فعظمت منزلته عنده ونال منه أموالًا جمة. وكان وروده عليه سنة 380؛ أظن أصله من بلاد الموصل، دخل بغداد فقرأ بها، وكان عالمًا باللغة والآداب والأخبار، سريع الجواب، حسن الشعر، طيب المعاشرة، فكه المجالسة ممتعًا؛ فأكرمه المنصور وأفرط في الإحسان إليه والإفضال عليه؛ وكان مع ذلك محسنًا لظريف السؤال، حاذقًا في استخراج الأموال، طَبًّا1 بلطائف الشكر.

أخبرني بعض مشايخ الأندلس بإسناد له، أن أبا العلاء دخل على المنصور أبي عامر يومًا في مجلس أنسه، وقد كان تقدم له أن اتخذ قميصًا من رقاع الخرائط التي كانت تصل إليه فيها الأموال منه، فلبسه تحت ثيابه؛ فلما خلا المجلس ووجد فرصة لما أراد، تجرد وبقي في القميص المتخذ من الخرائط، فقال له: ما هذا يا أبا العلاء؟ فقال: هذه الخرائط التي وصلت إليَّ فيها صلات مولانا أتخذها شعارًا! وبكى، وأتبع ذلك من الشكر فصلًا كان رواه، فأعجب ذلك المنصور، وقال له: لك عندي مزيد! وكان كما قال.

وألف له أبو العلاء هذا كتبًا، فمنها كتاب سماه: كتاب الفصوص، على نحو: كتاب النوادر لأبي علي القالي. واتفق لهذا الكتاب من عجائب الاتفاق أن أبا العلاء دفعه حين كمل لغلام له يحمله بين يديه وعبر النهر، نهر قرطبة؛ فخانت الغلام رجله فسقط في النهر هو والكتاب؛ فقال في ذلك بعض الشعراء -وهو أبو عبد الله محمد بن يحيى المعروف بابن العَرِيف- بيتًا مطبوعًا بحضرة المنصور، وهو: من السريع

قد غاص في البحر كتاب الفُصُوصْ ... وهكذا كل ثقيل يغوصْ! 2

فضحك المنصور والحاضرون، فلم يَرُعْ ذلك صاعدًا ولا هاله3، وقال مرتجلًا مجيبًا لابن العريف: من السريع

عاد إلى مَعْدِنه إنما ... توجد في قعر البحار الفصوص! 4

طور بواسطة نورين ميديا © 2015