ويتلاحق بها جميع أقذار المطابخ والمرافق. ورائحتها ولا سيما في الصيف أشد أذى من رؤيتها. فهلا جعل لها مثاعب تحت الأرض أو أبيات تنف منها إلى نهر أو غيره كما في لندن. وأنظر إلى مبلطّ هذه الطرق حيث تجري المراكب والعجلات. فإنك ترى حجارته قد اختلت وتباعد بعضها عن بعض حتى عاد سير العجلات عليها كطلوع عقبة أو درج فهي لا تزال تهتز واضطرب. وسبب ذلك أن البلاط هنا يفرش فرشاً غير مرصوص ولا منظم بعضه إلى بعض فإذا أتت عليه السنون زاد تباعداً وتخلخلاً. فأما في لندن فإنه يرص بعضه على بعض قائماً فتسير عليه العجلات سيراً سريعاً سهلاً بل قرقعة ولا اضطراب. وأنظر أيضاً إلى برازيق الطرق هنا أي حيث تمشي الناس. فما أضيقها وأقذرها وأقل جدواها. ففي كثير من الحارات لا يمكن لأثنين أن يمشيا معاً على حافة واحدة منها. بل هي لا توجد رأساً في كثير من الطرق أو توجد غير كاملة من الأول إلى الآخر فتراها قد تعطلت في موضع واختلت في آخر. وأنظر إلى هذه الأنوار القليلة في الأسواق وإلى فوانيسها البارزة من الحيطان وإلى بعد المسافة ما بينهما. فقد يمشي الإنسان في أكثر الطرق من فانوس إلى آخر أكثر من من مائة وعشرين خطوة. وانظر إلى صغر هذه الحوانيت وقلة أنوارها وبؤس أهلها وشحّهم. فقلما تجد عند أحدهم ناراً. مع أن هذا الشهر هو من أبرد الشهور. وتأمل هذه الديار وعلو طبقاتها وكثرة درجها ووسخها وفساد ترتيب مرافقها ومراحيضها. فقد تجد في الدار الواحدة عدة مراحيض بجانب المساكن وعدَّة مصاب للماء والأقذار. وناهيك ما يخرج منها صباحا من الروائح الخبيثة. ومع كون هذه المراحيض قذرة نجسة خالية عن لوالب الماء فليس لها مزاليج من داخل ليأمن الإنسان في حال خلوته من انبعاق أحد عليه. فكثيراً ما يدمق عليه دامق ولما يكن أتى على آخر ما عنده فيلحقه بالبدغ والأمدر أو الماصع أو الجازم أو الراطم المزرم وقد سألت عن سبب ذلك فقيل لي أن صاحب الدار إذا كان متورعاً يتحرج من وضع المزاليج خفية أن يدخل بعض الساكنين والساكنات معاً ويتحصنوا بها. ومن أقذر ما يرى في حيطانها آثار أصابع مختلفة فكأن الفرنساوية يستطيبون الاستطابة بأصابعهم. وحين ينظفونها ليلاً تخرج رائحتها الخبيثة وتنتشر في الحارة كلها. فلا يمكن للإنسان أن يبيت إلا مسدود المنخرين. ثم أن هذه الديار ماعدا كونها تشتمل على ست طبقات فأكثر. وعن ذلك وعن ذلك وعن فساد التبليط يسمع لمرور العجلات قرقعة زائدة كما لا يخفي. وما عدا كونها تحوي سكاناً كثيرين مابين فاجر فاجر وفاجرة ومستهتر ومستهترة. فإن كثيراً من مساكنها لا يصلح للسكني لخلوه من النور والهواء. ولا يكاد الإنسان يستريح في محل منها. فإنه أما أن يجده قريباً من المرحاض. أو يجد موقده رديئاً. أو يجدي فيه فأراً أو جرذاناً. أو يجد جاره ذا صخب ووقاحة يغني النهار والليل أو يعزف بآلة طرب. أو يخلو بالمومسات على هرج ومرج وقرقرة وكركرة. وإن من داخلها ما يضحك ويبكي. فالمضحك ما يرى من الخلل في هندمة الأبواب والشبابيك وفرش المبلط بالآجر واتصال بعض المساكن ببعض. والمبكي رؤية هذه المواقد فإنها مبنية على شبه القبور وذلك أول ما يخطر ببال الداخل إلى مسكنه. فهي جديرة والحالة هذه بأن تكون صوامع للرهبان المتبتلين لا مضاجع للناس المتزوجين. وأغرب من ذلك أن أبواب الديار لا تزال مفتوحة. وإن البوابين يتعاطون الحرف والصنائع في كنّ لهم يلزمونه ليلاً ونهاراً. فمنهم من يشتغل بالخياطة ومنهم بحذو النعال ونقلها أو غير ذلك. بحيث أن كل إنسان يمكنه ارتقاء الدرج بلا مانع. وقل أن يبصر البواب من كنه أحداً لأن عينيه أبداً ملازمتان للإبرة أو الأشفى. ولذلك كانت دواعي الفساد في باريس أكثر منها في لندن. وما يرى هنا من الديار البهية والطرق الواسعة الحسنة فإنما هو حديث عهد. فكيف كان لباريس شهرة في الزمن القديم وديارها العتيقة وطرقها العهيدة مما ينبو عنه الطرف وتقذره النفس فأين هذا من شوارع لندن الرحيبة الوضيئة ومن دكاكينها الواسعة الظريفة المزجّجة بأحسن الزجاج وأنفسه. ومن ديارها النظيفة المهندمة. قال فقلت ومن حكاكات أعتابها. فقالت ومن أعتاب حكاكاتها. ثم استمرت تقول ومن مساكنها الأنيقة ومن دراجاتها الحسنة التي لا تزال مكسوة بالزرابي الفاخرة. أيم الله أن صعود خمسين

طور بواسطة نورين ميديا © 2015