درجة منها لأهون على من صعود عشر درجات هنا. وأين تلك المواقد البهية المصفحة بالحديد اللماع المجلو في صباح كل يوم. وتلك الشبابيك والطيقان المحكمة التزجيج. وأين تلك المطابخ التي لا يزال فيها نور الغاز متوقداً والماء الساخن عتيداً للسكان. وكم فيها من وصائف خُرَّد يتمنى أعظم المخدومين عندنا أن يكون لإحداهن خادماً أو طبّاخاً. قلت بل لامجاً. قالت أو لاحساً.

إلا وأين حسن نهر تامس وما فيه من سفن النار التي تسير إلى ضواحي لندن في الصيف وفيها آلات الطرب. فتراها ملائة بالرجال والنساء والأولاد فكإنما هي رياض مزينة بالأزهار. وأين تلك الحدائق الكثير وجودها في كل جهة في المدينة وهي التي يسمونها ترابيع. ومن يسكن في غرفة مطلة عليها يخيل له إنه مريف. فإذا مشى بعض خطوات ورآها رأى الناس وازدحامهم إقبالا وادباراً. ثم أين تلك الأنوار المتوقدة. في كل من الطرق والدكاكين بحيث انك إذ كنت في أول الشارع وسرحت نظرك إلى آخره أدهشك حسنها وازدهارها. وظننت أنها نسق كواكب قد نظمت في سلك واحد وإنما يمدح باريس من لم يكن قد رأى لندن أو من رآها بعض أيام ولم يعرف لسان أهلها. ثم أين ملاطفة مكريات المساكن ورفقهن بالنازل عندهنَّ غريباً كان أو لا. فإن الغريب إذا تبوأ منزلاً عندهن يصبح وقد صار واحداً من أهل البيت. لأن كلاّ من صاحبة المنزل ومن الخادمة وما أدراك ما الخادمة. تلاطفه وتؤانسه وتقوم بخدمته وتطبخ له وتشتري له ما شاء من السوق. وتطلع إليه كل يوم بالماء السخن وتضرم له النار وتمسح نعاله. لعمري أن النازل عندهن يمكنه أن يتعلم اللغة الإنكليزية بمحاورته معهن في أقصر مدة. فأما في باريس فإن النازل في أحد المساكن قد يموت في ليلته ولا يعلم به أحد. فإن بينه وبين البواب بعداً باعداً. وفي أكثر المساكن هنا لا يجد الإنسان جرساً ليطنّه فيتحرك له البواب. ثم أين استقامة تجار لندن وصدقهم في البيع والشراء وتودّدهم إلى الشاري وأناتهم معه من تجار باريس الذين لو قدروا على سلخ جلد المشتري ولا سيما إذا كان غريباً لما تأخروا. وإنهم قد حاكوا تجار لندن في وضعهم بطاقة الثمن على البياعات. ولكن هيهات. فإن من سعر حاجة بمائة فرنك مثلاً يبيعها بثمانين. وقد يضعون في وجوه الحوانيت أصنافاً من البضاعة مسعرة فإذا أردت أن تشتري شيئاً من ذلك الصنف جاءك بصنف دونه في الجودة. وحلف لك إنه من عين ذلك الراموز ولا يزال بك مبربراً مثرثراً وحالفاً وحانثاً حتى تشتريه حياء أو خصما للنزاع. وغير مرة يعطون الشاري فلوساً أو دراهم زائفة. فأما باعة المأكولات والمشروبات فإنهم أكثر غشاً وشططاً في هذه المدينة من سائر الناس. ولهم في الوزن لباقة لم أرها عند غيرهم. وذلك أن من باعك شيئاً موزوناً يطرحه في كفة الميزان. وأول ما تميل به الكفة يرفعه بلباقة ويسلمه لك. ولو أرسلت إليه خادمك أو أبنك لباعه نفاية ما عنده وكان على السنجة اشد غضباً. هذا ما عدا غشهم المأكول والمشروب وتغييرهم الأسعار بتغيير الأوقات والأحوال. وهذه اللباقة معروفة أيضاً عند باعة الأصناف كيلاً وذرعاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015