ومال القاضي من جهته للصلح، وأرسل خلف المدرسين، وأرسل للصلح حتى يرسلوا له عرضاً مكتوباً في صلح كليب. فلما ورد إلى عند القاضي قالوا له: مرادنا نعمل صلح ونحقن دماء الإسلام، فنفض طوقه وقال: لا أقارش، أفندي كيف أراد يفعل. فسكت الكل وتركوا الأمر، والأمير كليب ينتظر الجواب، والباشا ماكث لا يتحرك من مكانه، وكليب في كل يوم يرحل إلى قرب العسكر، فلما لم يأت الجواب بعد مكث الباشا شهرين ينتظر مسكة كليب، فلما لم يقم أحد ولم يأت جواب، ولم ينفعهم كلام ولا مال توعد الباشا في الصباح، وكان ابن سلامة شار على الباشا أن يغدروا بكليب على حين غفلة قبل أن يهجم على العسكر، فلم يرض، فرحل تلك الليلة ورجع يسوق إلى البرية لعلمه بسبق كليب وهجومه على العسكر، ولا طاقة لهم به، فعند الصباح رأى الباشا والعسكر والعرضي نحو عشرين، ثلاثين خيالاً يخايلوا، وأخذوا أحمالاً للباشا، فقام العسكر جميعه والينكجرية والزعماء وآلاي بيك السباهية وأولاد الينكجرية، وقام الباشا خلفهم، فلما وصلوا إلى قرب الجبل، طلع عليهم من خلف الجبل ما هو مثل الجراد فأخذوهم على درجة واحدة وتركوا الوطاق ومنه هرب، وشلحوه في الطريق وأخذوا جميع الوطاق، وكان الباشا في آخر العسكر فضربه عبد لكليب بالرمح قتله وألقاه على الأرض، ووضع برجل جمل، فلم يتركوا مع العسكر لا قليل ولا كثير، ووردوا الشام حفاةً عراة مشلحين بالزلوط، حتى إن قاضي العرضي الشيخ أبو بكر أفندي كذلك.
وكان تفادى في طلعته، وانجفل انجفالاً زايداً. وأخذ من الشربات والسكاكر والكلبا سكر والتمور والأولاد والخدام والخيول والمعمول والأثقال ما لا مزيد عليه، وورد كاتب الينكجرية المقابلجي ببشت وعلى رأسه مئزر استقرضه الفلاحون له من القرى. وهذه الكسرة مثل كسرة الفرنج، فإن المسلمين يرجعوا بحوائج بدنهم، وأما في هذه الوقعة فلم يرجعوا بشيء أصلاً، حتى الخيام والخيول والدواب والحمر والبغال والأحمال لم يبق منها. ثم الأثواب البدنية، ولم يرجع ولا فرس واحدة. وهذه الوقعة كانت في الجابية، وبقيت جثة الباشا ثلاثة أيام.
وأما باشة القدس فطلع إلى مكان يسمى الخربة، أصلها قرية لها عمارة، دايرها حصين، وفيها بير ماء، طلع إليها هو وجماعته وأخذوا يضربون العرب بالرصاص حتى قتلوا منهم عرباً كثيرةً، ولم يجرؤ أحد أن يهجم عليها لأنهم حصنوها مثل المتاريس بقوة آغوات دمشق كما تقدم، ثم إنهم أرسلوا عرضاً بكليب، بعد أن أخذ جماعة كليب جميع ما في الخيام من الأموال والحوايج والسلاح والخيول ما لا يحصى.
وأما كليب، فكتب جميع أسباب حسين باشا المقتول وجعلها في دفتر خوفاً من أن تطلبها السلطنة، كتبها له قاضي العرضي الشيخ أبو بكر أفندي، هو وبعض آغات مرسم عليهم عنده.
ثم لما طال الحال بالمحصورين بالخربة والمرسم عليهم عنده من دولة دمشق، عرضوا لدمشق: إنا محصورون في الخربة، والعرب حولنا من كل الجهات، فإما تكتبوا لكليب بالمعونة، وإما مال حتى نعطيه ونخرج من الخربة. فلما وصلت الأخبار بقتل الباشا وأن باشة القدس محصور بالخربة، أخرجوا الصنجق فوضعوه على باب السرايا ونادوا بالنفير العام في الأسواق والأزقة بالركوب على كليب، وأرسلوا إلى ابن بيرم يستنخوه بعد أن رحل من دمشق إلى حرستا.
وكان الباشا المقتول عرض عليه السفر معه فلم يرض وقال: لست مأموراً إلا بالحج.
فلما كان ما كان تغلظ خاطر قاضي الشام عليه فلم يرض أحد، وأهملوه لكونه لم يسافر مع الباشا ولم يسمع لكلامه، لأنه كان ابن بيرم حامل غيظ من الباشا المقتول عند الملاقاة في أبيار الغنم، وعمل عليه شمم كلي، تم في خاطره من ذلك.