شيء إلا اللّه .. لا قوة إلا قوته .. لا حول إلا حوله .. لا إرادة إلا إرادته .. لا ملجأ إلا إليه .. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح ..

والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» .. إنا للّه .. كلنا .. كل ما فينا .. كل كياننا وذاتيتنا .. للّه .. وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير .. التسليم .. التسليم المطلق .. تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة، وبالتصور الصحيح. هؤلاء هم الصابرون .. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل ..

وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» .. صلوات من ربهم .. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه .. وهو مقام كريم .. ورحمة .. وشهادة من اللّه بأنهم هم المهتدون .. وكل أمر من هذه هائل عظيم ..

وبعد .. فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي. التعبئة في مواجهة المشقة والجهد، والاستشهاد والقتل، والجوع والخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات. والتعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف.

إن اللّه يضع هذا كله في كفة. ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا .. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون .. إنه لا يعدهم هنا نصرا، ولا يعدهم هنا تمكينا، ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئا إلا صلوات اللّه ورحمته وشهادته .. لقد كان اللّه يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها.

فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته .. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى اللّه وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون .. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها .. فأما ما يكتبه اللّه لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة اللّه التي يحملونها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015