قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (?)
لقد كان - رضي اللّه عنه - يقتحم العقبة وهو يعتق هذه الرقاب العانية .. للّه .. وكانت الملابسات الحاضرة في البيئة تجعل هذا العمل يذكر في مقدمة الخطوات والوثبات لاقتحام العقبة في سبيل اللّه.
«أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» .. والمسغبة: المجاعة، ويوم المجاعة الذي يعز فيه الطعام هو محك لحقيقة الإيمان. وقد كان اليتيم يجد في البيئة الجاهلية الجاحدة المتكالبة الخسف والغبن. ولو كان ذا قربى. وقد حفل القرآن بالوصية باليتيم. مما يدل على قسوة البيئة من حول اليتامى. وظلت هذه الوصايا تتوالى حتى في السور المدنية بمناسبة تشريعات الميراث والوصاية والزواج. وقد مر منها الكثير في سورة النساء خاصة .. وفي سورة البقرة وغيرهما. وكذلك إطعام المسكين ذي المتربة - أي اللاصق بالتراب من بؤسه وشدة حاله - في يوم المسغبة يقدمه السياق القرآني خطوة في سبيل اقتحام العقبة، لأنه محك للمشاعر الإيمانية من رحمة وعطف وتكافل وإيثار، ومراقبة للّه في عياله، في يوم الشدة والمجاعة والحاجة. وهاتان الخطوتان: فك الرقاب وإطعام الطعام كانتا من إيحاءات البيئة الملحة، وإن كانت لهما صفة العموم، ومن ثم قدمها في الذكر. ثم عقب بالوثبة الكبرى الشاملة: «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» ..
و «ثُمَّ» هنا ليست للتراخي الزمني، إنما هي للتراخي المعنوي باعتبار هذه الخطوة هي الأشمل والأوسع نطاقا والأعلى أفقا. وإلا فما ينفع فك رقاب ولا إطعام طعام بلا إيمان. فالإيمان مفروض وقوعه قبل فك الرقاب وإطعام الطعام. وهو الذي يجعل للعمل الصالح وزنا في ميزان اللّه. لأنه يصله بمنهج ثابت مطرد. فلا يكون الخير فلتة عارضة ترضية لمزاج متقلب، أو ابتغاء محمدة من البيئة أو مصلحة. (?)