كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد اللّه أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصا، ويذهب وحده هالكا، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار! وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما. فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة. فيشاء اللّه أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة. فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار. فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه!
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه اللّه، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام. مع دفاع اللّه عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.
وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن اللّه به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ»
فوعد اللّه المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره .. فمن هم هؤلاء الذين ينصرون اللّه، فيستحقون نصر اللّه، القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه؟ إنهم هؤلاء: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» .. فحققنا لهم النصر، وثبتنا لهم الأمر .. «أَقامُوا الصَّلاةَ» .. فعبدوا اللّه ووثقوا صلتهم به، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين ..
«وَآتَوُا الزَّكاةَ» .. فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (?) ...