سبيل اللّه، في مشهد من المشاهد التصويرية الرائعة المروعة: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ، فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» ..
إن رسم المشهد هكذا في تفصيل وعرض مشهد العملية منذ خطواتها الأولى إلى خطواتها الأخيرة، ليطيل المشهد في الخيال والحس .. وهي إطالة مقصودة: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .. ويسكت السياق: وتنتهي الآية على هذا الإجمال والإبهام في العذاب ..
ثم يأخذ في التفصيل بعد الإجمال: «يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ».
وينتظر السامع عملية الإحماء! ثم ها هي ذي حميت واحمرت. وها هي ذي معدة مهيأة. فليبدأ العذاب الأليم ... ها هي ذي الجباه تكوى ... لقد انتهت عملية الكي في الجباه، فليداروا على الجنوب ... ها هي ذي الجنوب تكوى ... لقد انتهت هذه فليداروا على الظهور ... ها هي ذي الظهور تكوى ... لقد انتهى هذا اللون من العذاب فليتبعه الترذيل والتأنيب: «هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» .. هذا هو بذاته الذي كنزتموه للذة، فانقلب أداة لهذا اللون الأليم من العذاب! «فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ»! ذوقوه بذاته، فهو هو الذي تذوقون منه مسه للجنوب والظهور والجباه! ألا إنه لمشهد مفزع مروع، يعرض في تفصيل وتطويل وأناة! وهو يعرض أولا لتصوير مصائر الكثير من الأحبار والرهبان .. ثم لتصوير مصائر الكانزين للذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل اللّه .. والسياق يمهد لغزوة العسرة كذلك حينذاك!
لا بد أن نقف هنا وقفة قصيرة للتعقيب. نبرز فيها دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ومن دين ومن خلق ومن سلوك - وذلك بالإضافة إلى الإشارات التي أوردناها خلال الفقرات السابقة.
إن تعرية أهل الكتاب من شبهة أنهم على شيء من دين اللّه، ألزم وأشد ضرورة من بيان حال المشركين الصريحين في شركهم، الشاهدين على أنفسهم بالكفر بظاهر عقائدهم