يوم ولم يخدع عنه أحدا. فإذا كانت الظروف الواقعية تقضي بأن يدع من يسالمونه ابتداء من المشركين ليتفرغ لمن يهاجمونه وأن يوادع من يريدون موادعته في فترة من الفترات. وأن يعاهد من يريدون معاهدته في مرحلة من المراحل. فإنه لا يغفل لحظة عن هدفه النهائي الأخير كما أنه لا يغفل عن أن هذه الموادعات والمعاهدات من جانب بعض المشركين موقوتة من جانبهم هم أنفسهم. وأنهم لا بد مهاجموه ومحاربوه ذات يوم وأنهم لن يتركوه وهم يستيقنون من هدفه ولن يأمنوه على أنفسهم إلا ريثما يستعدون له ويستديرون لمواجهته .. ولقد قال اللّه للمسلمين منذ أول الأمر:
«وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» .. وهي قولة الأبد التي لا تتخصص بزمن ولا بيئة! وقولة الحق التي لا تتعلق بظرف ولا حالة! ومع استنكار الأصل، فقد أذن اللّه - سبحانه - بإتمام عهود ذوي العهود الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا إلى مدتها، مع اشتراط أن تكون الاستقامة على العهد - في هذه المدة - من المسلمين مقيدة باستقامة ذوي العهود عليها: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» ..
وهؤلاء الذين تشير الآية إلى معاهدتهم عند المسجد الحرام ليسوا طائفة أخرى غير التي ورد ذكرها من قبل في قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» .. كما فهم بعض المفسرين المحدثين .. فهي طائفة واحدة ذكرت أول مرة بمناسبة عموم البراءة وإطلاقها، لاستثنائها من هذا العموم. وذكرت مرة ثانية بمناسبة استنكار مبدأ التعاهد ذاته مع المشركين مخافة أن يظن أن هذا الحكم المطلق فيه نسخ للحكم الأول .. وذكرت التقوى وحب اللّه للمتقين هنا وهناك بنصها للدلالة على أن الموضوع واحد. كما أن النص الثاني مكمل للشروط المذكورة في النص الأول. ففي الأول اشتراط استقامتهم في الماضي، وفي الثاني اشتراط استقامتهم في المستقبل. وهي دقة بالغة في صياغة النصوص - كما أسلفنا - لا تلحظ إلا بضم النصين الواردين في الموضوع الواحد، كما هو ظاهر ومتعين.