نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد، بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه! وكان يكفي لأي عظيم - غير الرسول - أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل. ولكنها النبوة. أمر آخر. وآفاق أخرى! لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم، في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات، إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!» .. وهذا نسبه فيهم، لمجرد أنه هو شخصيا لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة! ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء. فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض ..
ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان!! وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى البيئة من حوله فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع، يطرد به أزمانا طويلة في حياة الأمة المسلمة.
لقد كان ميلادا جديدا للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته. وأعظم منه خطرا في قيمته .. أن ينطلق الإنسان حقيقة - شعورا وواقعا - من كل القيم المتعارف عليها في الأرض، إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية، وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل، ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر. ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع، مسلما بها من الجميع. وأن يستحيل الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم، وشريعة المجتمع المسلم، وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين.
إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد. لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب «التقدمية!» أن جانبا واحدا منها - هو الأوضاع الاقتصادية - هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ