لم أرد هذا، إنما أردت القتل في سبيل الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا مثل للقتل في سبيل الله، ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها» يعني المدينة، ثلاث مرات.
وروى ابن شبة في أخبار مكة عن سعيد بن أبي هند قال: سمعت أبي يذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا دخل مكة قال: اللهم لا تجعل منايانا بمكة حتى نخرج منها» ورواه أحمد في مسنده برجال الصحيح عن ابن عمر مرفوعا، إلا أنه قال: «حتى تخرجنا منها» .
وروى مالك والبخاري ورزين العبدري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك، زاد رزين أن ذلك كان من أجلّ (?) دعاء عمر.
وسبق ما جاء في أن الإنسان يدفن في التربة التي خلق منها؛ فالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأكثر أصحابه وأفضلهم خلقوا من تربة المدينة، وقد ثبت حديث: «من مات بالمدينة كنت له شفيعا يوم القيامة» ورواه البيهقي بلفظ: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت، فمن مات بالمدينة كنت له شفيعا وشهيدا» وفي رواية له: «فإنه من يمت بها أشفع له، أو أشهد له» وقد ذكر هذه الرواية ابن حبان في صحيحه.
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه وابن ماجه والبيهقي وعبد الحق وصححه حديث «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها» ولفظ ابن ماجه «فإني أشهد» بدل «فإني أشفع» ورواه الطبراني في الكبير بسند حسن، ولفظه «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت؛ فإنه من مات بها كنت له شهيدا- أو شفيعا- يوم القيامة» ورواه ابن رزين بنحوه، وزاد «وإني أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون، ثم أنتظر أهل مكة فأحشر بين أهل الحرمين» وفي رواية لابن النجار «فأخرج أنا وأبو بكر وعمر إلى البقيع فيبعثون، ثم يبعث أهل مكة» .
وروى الطبراني حديث «أول من أشفع له من أمتي أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف» وأخرجه الترمذي بالواو بدل ثم، وسيأتي في فضل البقيع زيادة تتعلق بذلك.
وبالجملة: فالترغيب في الموت في المدينة لم يثبت مثله لغيرها، والسكنى بها وصلة إليه؛ فيكون ترغيبا في سكناها، وتفضيلا لها على غيرها، واختيار سكناها هو المعروف من حال السلف، ولا شك أن الإقامة بالمدينة في حياته صلّى الله عليه وسلّم أفضل إجماعا، فنستصحب ذلك بعد وفاته حتى يثبت إجماع مثله برفعه.