أبدًا إلى جمال مستفيض على روحه يتقلب فيها باللذة والألم يرجع إليه ويستمد منه، وكلاهما لا يجد المعنى الجميل في الطبيعة معنى، بل رسولًا من الجمال أرسل إليه وحده، ولا يزال يشعر في كل وقت أن له رسائل ورسلًا هو بعد في انتظارها، وكلاهما متى ظفر بشيء من مصدر الجمال انتهى من شدة فرحه إلى الظن أنه ربح من الكون ربحًا لم يكن له من قبل، وكلاهما متهالك بين قيود الحياة التي في الحياة والواقع، وبين حريتها التي في خياله وأمله، كأن عليه في سبيل هذه الحرية أن يقطع الليل والنهار لا قيدًا من قيود الاجتماع أو العيش؛ وكلاهما متصل بقوة غيبية وراء ما يرى وما يحس تجعل نظرته في الأشياء خاضعة لقانون النظرة العاشقة في العينين الساحرتين المعشوقتين، فإذا مد عينيه في شيء جميل فهناك سؤال وجوابه، ووحي وترجمته، ومرور من يقظة إلى حلم، وانتقال من حقيقة إلى خيال!
غير أن طبيعة العبقري تزيد على كل ذلك ألمًا تنفرد به لا تستقر معه على رضا، ولا يبرح يسلط الإعنات عليها ويستغرقها قالهموم السامية؛ وذلك ألم الكمال الفني الذي لا يدرك العبقري غايته عند نفسه، وإن كان عند الناس قد أدرك غايات وغايات؛ فطبيعة كل عبقري تجهد جهدها في العمل لتخرج به مما يستطيعه الناس، فإذا تأتى صاحبها لذلك وكابد فيه وأدرك منه وبلغ وأعجز، اندفعت طبيعته إلى الخروج مما يستطيع هو.. كأنه خارج عن الطبيعة وداخل في الطبيعة في وقت معًا، وكأنه نفسه وفوق نفسه في حال، وهذا سر حريته وسموه، كما أنه سر ألمه وحيرته.
ومن أثر ذلك ما تحسه أنت إذا قرأت للأديب البليغ التام صاحب الفكر والأسلوب والذهن الملهم؛ فإنك تقف على المعنى من معانيه يملأ نفسك ويتمدد فيها ويهتز بها طربًا وإعجابًا، فنقول: لا أحس من هذا! ثم تؤمل مع ذلك أن تجد منه ما هو أحسن من هذا.. كأنه وإن تناهى إلى الغاية لا يزال عندك فوق الغاية؛