وحي القلم (صفحة 839)

ويزيد فيه أيضًا ... ثم ليؤتى الناس المثل الأعلى من المعنى على يد المثل الأعلى من الفكر؛ ولهذا تصيب الكلام الذي يكتبه النابغة الملهم في أوقات التجلي عليه كأنه كلام صور نفسه وصاغها، أو كأنه قطعة من الحس قد جمدت في أسطر؛ ولا بد أن تشعرك الجملة أنها قذفت وحيا؛ إذ لا تجدها إلا وكأن في كلماتها روحًا يرتعض؛ ولقد يخطر لي وأنا أقرأ بعض المعاني الجميلة لذهن من الأذهان الملهمة كشكسبير والمتنبي وغيرهما -حين أتأمل اختراع المعنى وإبداع سياقه وضحى البيان عليه وإشراقه فيه وما أتيح له من جلال ظاهر في شكل حي يلمح بسره في النفس- يخيل إلي من ذلك أن سر الطبيعة القادر يعمل عمله أحيانًا بذهن إنساني ليخلق تعبيرًا عن جلاله في مثل جلاله.

وأنت فلو أخذت معنى من هذه المعاني الآتية من الإلهام وأجريته في كتابة كاتب أو شعر شاعر من الدين ليس لهم إلا أذهانهم يكدونها، وكتبهم يجعلونها أذهانهم أحيانًا ... لرأيت الفرق بين شيء وشيء في أحسن ما أنت واجده لهم على نحو ما ترى بين زهرة حريرية جاءت من عمل الإنسان بالإبرة والخيط، وزهرة أخرى قد انبثقت عطرة ناضرة في غصنها الأخضر من عمل الحياة بالسماء والأرض.

والعبقري هو أبدًا وراء ما لا ينتهي من جمال، أوله في نفسه وآخره في الجمال الأقدس الذي مسح على هذه النفس الجميلة السامية؛ فما دام فيه سر العبقرية فهو دائب يعمل ممزقًا حياته في سبحات النور تمزيقًا يجتمع منه أدبه؛ وما أدبه إلا صورة حياته؛ وهو كلما أبدع شيئا طلب الذي هو أبدع منه؛ فلا يزال متألمًا إن عمل لأن طبيعته لا تقف عند غاية من عمله، ومتألمًا إن لم يعمل؛ لأن تلك الطبيعة بعينها لا تهدأ إلا في عمل، وهي طبيعة متمردة بذلك الجمال الأقدس تمرد العشق في حامله؛ إذ هما صورتان لأمر واحد كما سنشير إليه؛ فكل ما تجده في نفس العاشق المتدلة مما يترامى به إلى جنونه وهلاكه، تجد شبهًا منه في نفس العبقري؛ فكلاهما قانونه من طبيعة وحدها؛ إذ قد اتخذت حياته شكلها الفني من ذوقه هو وحده؛ فليس يتبع طريقة أحد، بل هو في طريقة نفسه1، وكلاهما مسترسل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015