أولئك الرسل - من قص اللّه على رسوله منهم ومن لم يقصص - اقتضت عدالة اللّه ورحمته أن يبعث بهم إلى عباده يبشرونهم بما أعده اللّه للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان وينذرونهم ما أعده اللّه للكافرين العصاة من جحيم وغضب .. كل ذلك: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» ..
وللّه الحجة البالغة في الأنفس والآفاق وقد أعطى اللّه البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق. ولكنه - سبحانه - رحمة منه بعباده، وتقديرا لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم - أداة العقل - اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل «مبشرين ومنذرين» يذكرونهم ويبصرونهم ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق.
«وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» .. عزيزا: قادرا على أخذ العباد بما كسبوا. حكيما: يدبر الأمر كله بالحكمة ويضع كل أمر في نصابه والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدره اللّه في هذا الأمر وارتضاه ..
ونقف من هذه اللفتة: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة العميقة ونختار منه ثلاثا على سبيل الاختصار الذي لا يخرج بنا من الظلال.
نقف منها: أولا: أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا «الإنسان» قضية الإيمان باللّه التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعياتها وتصرفاتها كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى.
لو كان اللّه - سبحانه - وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها، يعلم أن العقل البشري، الذي وهبه للإنسان، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لو كله إلى هذا العقل وحده يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ ولما جعل حجته على عباده هي رسالة، الرسل