وتتبين لنا ضخامة ما أحدثته هذه الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف الإسلامي من مراجعة ما نزل من القرآن في هذا الموضوع، منذ قوله تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها» - وقد استغرق درسين كاملين في الجزء الأول - ومن مراجعة هذا الدرس في هذا الجزء أيضا. ومن التوكيدات والإيضاحات والتحذيرات التي سندرسها فيما يلي تفصيلا عند استعراض النص القرآني.
أما الآن فنقول كلمة في حكمة تحويل القبلة، واختصاص المسلمين بقبلة خاصة بهم يتجهون إليها. فقد كان هذا حادثا عظيما في تاريخ الجماعة المسلمة، وكانت له آثار ضخمة في حياتها ..
لقد كان تحويل القبلة أولا عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية في هذا الدرس: «وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» .. فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي .. ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب للّه، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط باللّه مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم .. فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه - فترة - إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد .. حتى إذا استسلم المسلمون، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام.
ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه. هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا للّه، وليكون تراثا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية