أن قلوبهم نظيفة مستقيمة إنما جاءها الضلال من الغرارة والبراءة! فلما مسها الحق انتفضت، وأدركت، وتذوقت وعرفت. وكان منهم هذا الهتاف المدوي: «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً. وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» ..
وهذه الانتفاضة من مس الحق، جديرة بأن تنبه قلوبا كثيرة مخدوعة في كبراء قريش، وزعمهم أن للّه شركاء أو صاحبة وولدا. وأن تثير في هذه القلوب الحذر واليقظة، والبحث عن الحقيقة فيما يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وما يقوله كبراء قريش، وأن تزلزل الثقة العمياء في مقالات السفهاء من الكبراء!
وقد كان هذا كله مقصودا بذكر هذه الحقيقة. وكان جولة من المعركة الطويلة بين القرآن وبين قريش العصية المعاندة وحلقة من حلقات العلاج البطيء لعقابيل الجاهلية وتصوراتها في تلك القلوب. التي كان الكثير منها غرا بريئا، ولكنه مضلل مقود بالوهم والخرافة وأضاليل المضللين من القادة الجاهليين! «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» ..
وهذه إشارة من الجن إلى ما كان متعارفا في الجاهلية - وما يزال متعارفا إلى اليوم في بيئات كثيرة - من أن للجن سلطانا على الأرض وعلى الناس، وأن لهم قدرة على النفع والضر، وأنهم محكمون في مناطق من الأرض أو البحر أو الجو .. إلى آخر هذه التصورات. مما كان يقتضي القوم إذا باتوا في فلاة أو مكان موحش، أن يستعيذوا بسيد الوادي من سفهاء قومه، ثم يبيتون بعد ذلك آمنين! والشيطان مسلط على قلوب بني آدم - إلا من اعتصم باللّه فهو في نجوة منه - وأما من يركن إليه فهو لا ينفعه. فهو له عدو. إنما يرهقه ويؤذيه .. وهؤلاء النفر من الجن يحكون ما كان يحدث: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» .. ولعل هذا الرهق هو الضلال والقلق والحيرة التي تنوش قلوب من يركنون إلى عدوهم، ولا يعتصمون باللّه منه ويستعيذون! كما هم مأمورون منذ أبيهم آدم وما كان بينه وبين إبليس من العداء القديم!