«فَتَقْعُدَ» يصور هيئة المذموم المخذول وقد حط به الخذلان فقعد، ويلقي ظل الضعف فالقعود هو أضعف هيئات الإنسان وأكثرها استكانة وعجزا، وهو يلقي كذلك ظل الاستمرار في حالة النبذ والخذلان، لأن القعود لا يوحي بالحركة ولا تغير الوضع، فهو لفظ مقصود في هذا المكان.
«وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» .. فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك. أمر في صورة قضاء. فهو أمر حتمي حتمية القضاء. ولفظة «قَضى» تخلع على الأمر معنى التوكيد، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد.
فإذا وضعت القاعدة، وأقيم الأساس، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية، ولها في النفس ركيزة من العقيدة في اللّه الواحد، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال.
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة، هي رابطة الأسرة، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة اللّه، إعلانا لقيمة هذا البر عند اللّه: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما: أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً».
بهذه العبارات الندية، والصور الموحية، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء. ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام. إلى الذرية. إلى الناشئة الجديدة. إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء. إلى الأبوة. إلى الحياة المولية. إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف، وتتلفت إلى الآباء والأمهات.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد. إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات. وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان! فأما