فَصْلٌ: فِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ بِنَبِيٍّ أَصْلًا مَعَ جُحُودِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ نُبُوَّتَهُ فَهُوَ لِنُبُوَّةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَشَدُّ جَحْدًا، وَهَذَا يَتَبَيَّنُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ بَشَّرُوا بِنُبُوَّتِهِ، وَأَمَرُوا أُمَمَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ جَحَدَ نُبُوَّتَهُ فَقَدْ كَذَّبَ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَخَالَفَهُمْ فِيمَا أَوْصَوْا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، فَالتَّصْدِيقُ بِهِ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ التَّصْدِيقِ بِهِمْ، وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى مَلْزُومُهُ قَطْعًا، وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تُفِيدُ بِمَجْمُوعِهَا الْقَطْعَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذُكِرَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى أَلْسُنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَتِ الْمُلَازَمَةُ فَانْتِفَاءِ اللَّازِمُ مُوجِبٌ لِانْتِفَاءِ مَلْزُومِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : أَنَّ دَعْوَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ هِيَ دَعْوَةُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ.
فَالْمُكَذِّبُ بِدَعْوَتِهِ مُكَذِّبٌ بِدَعْوَةِ إِخْوَانِهِ كُلِّهِمْ، فَإِنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ جَاءُوا بِمَا جَاءَ بِهِ، فَإِذَا كَذَّبَهُ الْمُكَذِّبُ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ بَاطِلًا، وَفِي ذَلِكَ تَكْذِيبُ كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَكُلُّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صِدْقٌ، وَأَنَّهُ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا بِالْحَقِّ فَصَدَّقَهُمُ