فاجتمع بالسلطان وكلّمه في ذلك من غير أن يحسب عقباه ولا أعمل فيه فكره إلى أن كان ما قدّمنا ذكره من إخراجه إلى مكة المشرّفة على ما عرفته فلا نعيده.
وقدّمنا أيضا كيف توجّه إلى العراق صحبة الحاج العراقي مع الأمير عبد الحق بن الجنيد (?) أمير الركب في تلك السنة وكيف جال عدّة من تلك البلاد، وكان قصده الاجتماع بجهان شاه ملك العراق وتبريز فكان شأن قتلته على يد حسن الطويل (?) ما تقدّم ذكره.
ثم كانت وفاة الظاهر خشقدم، فعاد الوالد إلى هذه المملكة من على جهة حلب، ثم دخل طرابلس في سنة ثلاث وسبعين هذه في أوائلها، ونزل بداره فأقام بها منجمعا عن الناس، متوجّها إلى الله تعالى منعكفا على العبادة والخير وتلاوة القرآن، مقبلا على شأنه، وكأنه كان قد أحسّ بفراغ أجله. واتفق أن لم تطل نوبته بطرابلس إلاّ بعض شهور وبغته أجله بها بعد أن تمرّض بالبطن أياما، ولما حدس أنه يموت كان معه بعض شيء من حطام الدنيا مبلغا عينا نقدا (كذا) فأحضره وقسّمه على أولاده وورثته، وكنت أنا إذ ذاك بالقاهرة فأفرز نصيبي وفرّق من ذلك المبلغ في جماعة من ذويه وسراريه وغيرهم من ثلثه، ثم أحضر الغاسل وأعطاه دينارا ذهبا وقال له: كأني بي وقد متّ فاحضر لغسلي، ثم وصف له كيفية يغسّله عليها وقال له: خذ سلبي وما عليّ من الثياب. ثم لزم تلاوة القرآن إلى أن توفي بعد أيام من هذه الفعلة يسيرة، في ليلة الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة مبطونا شهيدا، وجهّز وكفّن، وصلّي عليه بداره في صبيحة يوم الخميس، ثم دفن بالمدفن الذي كان أعدّه لنفسه.
وكان رحمه الله تعالى مشكور السيرة في جميع ولاياته، ذا عدل وإنصاف فيما وليه من أمور المسلمين، كثير الشفقة على خلق الله تعالى، بحيث لما عزل عن نيابة الإسكندرية أغلق أهلها بابها واستغاثوا وأرادوا منعه من خروجها حتى تلطّف بهم. وكذا وقع له بمدينة الكرك. بل قام أهل الكرك معه وقالوا له: إن شئت نمنعك بهذا الحصن ونصير أتباعا لك، ولا علينا من السلطان، وكذا فعل أهل ملطية حين صرف عنهم. وكان محبّبا للناس، كثير التواضع لأهل التواضع، لا يحبّ سفك الدماء، وما أقدم في جميع ولاياته على سفك دم لا بحق ولا بغيره، فإنه لم يتفق له ذلك حتى عدّ ذلك من نوادره، سوى شنق حسن قجا بحكم خروجه عن طاعة الظاهر وشق العصا مع أخيه تغري برمش، وكان شنقه بأمر الظاهر وحكمه. وكان شهما، فخما، ضخما، ريّسا، وجيها في الدول، سيوسا، مدبّرا، عاقلا حازما، ذا رأي وتدبير وخبرة بالأمور، ومعرفة تامّة، قائما في