شيئاً، فلما قل ما بيدي وذهب ما لي وفسد حالي بقيت مهاناً ثقيلاً على الذي يألفني، وأبعدني من كان يشتهي قربي وأزور من لا يرغب في زيارتي، فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وشر المال أخذها مني وجحدني وطردني وأغلظ علي، فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم راجياً لنصرتي، فلما أحضر أباها وِسأله عن حالي قال: ما أعرفه قط. فقلت: أصلح الله الأمير إن رأى أن يحضرها ويسألها عن قول أبيها ففعل، وبعث خلفها. فلما حضرت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب، فصار لي خصماً وعلي منكراً، وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن، فبقيت كأنما خررت من السماء، أو استهوت بي الريح في مكان سحيق. ثم قال لأبيها: هل لك أن تزوجنيها على ألف دينار وعشرة آلاف درهم، وأنا ضامن خلاصها من هذا الأعرابي؟ فرغب أبوها في البذل وأجابه إلى ذلك. فلما كان من الغد بعث إلي وأحضرني ونظر إلي كالأسد الغضبان، وقال: طلق سعاد! فقلت: لا، فسلط علي جماعة من غلمانه فأخذوا يعذبوني بأنواع العذاب فلم أجد لي بداً من طلاقها ففعلت. فأعادني إلى السجن، فمكثت فيه إلى أن انقضت عدتها فتزوجها وأطلقني، وقد أتيتك راجياً وبك مستجيراً وإليك ملتجئاً، وأنشد يقول:
في القلب مني غرام للنار فيه ... استعار والجسم مرمى بسهمٍ
فيه الطبيب يحار وفي فؤادي ... جمر والجمر فيه شرار
والعين تهطل دمعاً ... فدمعها مدرار
وليس إلا بربي ... وبالأمير انتصار
قال: ثم اضطرب واصطكت لهاته وصار مغشياً عليه. وأخذ يتلوى كالحية. قال: فلما سمع معاوية كلامه وإنشاده، قال: تعدى ابن الحكم في حدود الدين وظلم واجترأ على حرم المسلمين. ثم قال: لقد أتيتني يا أعرابي بحديث لم أسمع بمثله قط. ثم دعا بدواة وقرطاس وكتب إلى مروان ابن الحكم كتاباً يقول فيه: أنه قد بلغني أنك تعديت على رعيتك في حدود الدين، وينبغي لمن كان والياً أن يكف بصره عن شهواته ويزجر نفسه عن لذاته، ثم كتب بعده كلاماً طويلاً اختصرته، وأنشد يقول:
وليت أمراً عظيماً لست تدركه ... فاستغفر الله من فعل امرئ زاني