وَلم يزل شَأْن الله مَعَ الْأَنْبِيَاء أَن ينْزع إرادتهم ومشيئآتهم ليقفوا على مراقبة مَشِيئَته حَتَّى استقاموا فَرضِي الله عَنْهُم بموافقتهم إِيَّاه وتخليتهم عَن الجبرية فَإِن الْجَبَّار وَاحِد قهار فَلَيْسَ للعبيد أَن يتجبروا فيضاهئون الله وَإِنَّمَا سمي الْجَبَّار جبارا لِأَنَّهُ مستبد بكبره يجْبر الْخلق على مَشِيئَته فالجبار مضاد لله مضاد لحكمه قَالَ الله تَعَالَى يَا دَاوُد تُرِيدُ وَأُرِيد وَيكون مَا أُرِيد فَإِن أردْت مَا أُرِيد كفيتك مَا تُرِيدُ وَإِن أردْت غير مَا أُرِيد عنيتك فِيمَا تُرِيدُ وَيكون مَا أُرِيد
وَلم يزل يهذب نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التحارص فِي الدّين حَتَّى يكون بِمِقْدَار ومقداره أَن يراقب أَمر الله وَمَا يَبْدُو لَهُ من مشيئآته فِي كل أَمر فيطمئن إِلَيْهِ حَتَّى استقام فَأثْنى عَلَيْهِ فَقَالَ {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} فَسُئِلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن خلقه فَقَالَت كَانَ يرضى بِرِضَاهُ ويسخط بسخطه أَي برضاء الله وَسخطه كَأَنَّهُ لم يبْق لَهُ مَشِيئَته
وَبلغ من استقامته أَنه فِيمَا رُوِيَ حِين كَانَ يقبض جَاءَهُ جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ إِن رَبك يخيرك بَين لِقَائِه وَبَين الْخلد فَقَالَ لَا أخْتَار حَتَّى يخْتَار لي رَبِّي
فَهَذَا غَايَة رفض الْمَشِيئَة لم يحملهُ الشوق إِلَى ربه على اخْتِيَار اللِّقَاء وَلم يحملهُ الْكَوْن بَين الْأمة فِي خَالص العبودة وَلَذَّة الطَّاعَات وتربية الْأمة اخْتِيَار الْكَوْن بَين ظهرانيهم فَألْقى الِاخْتِيَار إِلَى ربه فَرفع جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهِ وَقد كَانَ لملك الْمَوْت لَا تنزعن مُحَمَّدًا حَتَّى آتِيك فَرجع وَملك الْمَوْت ينتظره فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن الله اخْتَار لَك لقاءه فَقَالَ تقدم يَا ملك الْمَوْت فَمَا زَالَ يَقُول لِقَاء رَبِّي لِقَاء رَبِّي حَتَّى خرجت نَفسه وَكَذَلِكَ فعل حَيْثُ خير بَين أَن يكون عبدا نَبيا أَو ملكا