لأن أقوال المفتين في حق العامي تنزل منزلة الأدلة المتعارضة في حق المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح بينها يجب على العامي أيضًا الترجيح بين أقوال المفتين، ولأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن، فالظن في تقليد الأعلم والأورع أكثر فكان المصير إليه واجبًا، وذلك قد يكون بالشهرة والتسامع، وبكثرة المسالة من أهل الخبرة محن أعلمهم وأورعهم، وبإقبال الناس عليه في الاستفتاء والاشتغال عليه، وتعظيمهم إياه لعلمه وورعه من غير جاه ومنصب، وقد يكون بالتجربة نحو أن يحفظ من كل باب من الفقه مسائل ويحفظ أجوبتها [فمن أصاب في أجوبتها] أو كان أكثر إصابة فهو راجح في العلم.
وقال قوم من الأصوليين كالقاضي أبو بكر وجمع من الفقهاء: إنه لا يجب عليه ذلك لتعذره أو لعسره، ولأن الصحابة والعلماء في كل عصر لا ينكرون على العوام ترك النظر في أحوال العلماء، فإن الصحابة كانوا يختلفون في المسائل وكان فيهم الفاضل والمفضول نحو الخلفاء الأربعة، ثم من بعدهم في الرتبة الثانية والثالثة إلى أن ينتهي إلى العوام. ثم أنه لم ينقل محن أحد منهم أنه كلف العامي بأخذ قول من هو في الرتبة الأولى أو في الثانية، وكذا العلماء في كل عصر فيهم الفاضل والمفضول ولم ينقل عن أحد منهم أنه أوجب على المستفتي الأخذ بقول الأفضل، وإذا لم يجب ذلك مع تحقيق ظن الأفضلية فلأن لا يجب الاجتهاد والنظر في أعلمهم وأورعهم بالطريق الأولى، ويتأكد ذلك بقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".