أي: تصور تلك المعاني لأنه يلزم الدور؛ وذلك لأن إفادة الألفاظ المفردة لمعانيها موقوفة على العلم بكونها موضوعة لتلك المسميات، والعلم بكونها موضوعة لتلك المسميات يتوقف على العلم بتلك المسميات، فيكون العلم بالمعاني متقدما على العلم بالوضع, فلو استفدنا العلم بالمعاني من الوضع لكان العلم بها متأخرا عن العلم بالوضع، وهو دور, فإن قيل: هذا بعينه قائم في المركبات؛ لأن المركب لا يفيد مدلوله إلا عند العلم لكونه موضوعا لذلك المدلول, والعلم به يستدعي سبق العلم بذلك المدلول, فلو استفدنا العلم بذلك المدلول من ذلك المركب لزم الدور, وأجاب في المحصول بأنا لا نسلم أن إفادة المركب لمدلوله متوقفة على العلم بكون موضوعا له, بل على العلم بكون الألفاظ المفردة موضوعة للمعاني المفردة, وعلى كون الحركات المخصوصة كالرفع وغيره دالة على المعاني، والمخصوصة، وقد أهمل ابن الحاجب والآمدي هذه المسألة أيضا.
قال: "ولم يثبت تعيين الواضع, والشيخ زعم أن الله تعالى وضعه, ووقف عباده عليه لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] ولأنه لو كانت اصطلاحية لاحتيج في تعليمها إلى اصطلاح آخر ويتسلسل، ولجاز التغيير فيرتفع الأمان عن الشرع. وأجيب بأن الأسماء سمات الأشياء وخصائصها أو ما سبق وضعها والذم للاعتقاد والتوقيف يعارضه الإقدار، والتعليم بالترديد والقرائن كما للأطفال, والتغير لو وقع لاشتهر" أقول: شرع في القسم الخامس, وهو الواضع فنقول: ذهب عباد بن سليمان الصيمري المعتزلي إلى أن اللفظ يفيد المعنى من غير وضع, بل بذاته لما بينهما من المناسبة الطبيعية، هكذا نقله عنه في المحصول، ومقتضى كلام الآمدي في النقل عن القائلين بهذا المذهب أن المناسبة وإن شرطناها لكن لا بد من الوضع، واحتج عباد بأن المناسبة لو انتفت لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا من غير مرجح، والجواب أنه يختص بإرادة الواضع أو بخطوره بالبال، ويدل على فسادها أنها لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف النواحي ولكان كل إنسان يهتدي إلى كل لغة، ولكان الوضع لضدين محالا وليس بمحال, بدليل القرء للحيض والطهر، والجون للسواد والبياض. وإذا تقرر إبطال مذهب عباد وأنه لا بد من واضع، فقد اختلفوا فيه على مذاهب أحدها: الوقف؛ لأنه يحتمل أن تكون الجميع توقيفية, وأن تكون اصطلاحية, وأن يكون البعض هكذا والبعض هكذا. فإن جميع ذلك ممكن والأدلة متعارضة فوجب التوقف، وهذا مذهب القاضي والإمام وأتباعه ومنهم المصنف، ونقله في المنتخب عن الجمهور، وفي الحاصل عن المحققين، وفي المحصول والتحصيل عن جمهور المحققين. والمذهب الثاني: أنها توقيفية ومعناه أن الله تعالى وضعها ووقفنا عليها -بتشديد القاف- أي: علمنا إياها، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري واختاره ابن الحاجب