مأمور بطلبه أولا, فإن أخطأ وغلب على ظنه شيء آخر تغير التكليف وصار مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه. والقول الثالث: أن عليه دليلا قطعيا، والقائلون به اتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه لكن اختلفوا, فقال الجمهور: إن المخطئ فيه لا يأثم ولا ينقض قضاؤه، وقال بشر المريسي بالتأثيم، والأصم بالنقض، والذي نذهب إليه أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا عليه دليل ظني, وأن المخطئ فيه معذور، وأن القاضي لا ينقض قضاؤه، هذا حاصل كلام الإمام وقد تابعه المصنف على اختياره، وزاد عليه فادعى أنه الذي صح عن الشافعي علمنا بهذا أنه أراد القول الأول المفرع على القول الثاني الذي هو مفرع على الثاني من القولين الأولين, لكنه أهمل منه كون المخطئ فيه مأجورا, وأن المجتهد لم يضف بإصابته، وإنما عبر عن هذا القول بأنه الذي صح عن الشافعي؛ لأن له قولا آخر أن كل مجتهد مصيب، وحكاه ابن الحاجب وغيره، فقال: ونقل عن الأئمة الأربعة للتخطئة والتصويب, واعلم أن كلام الأشعري المتقدم لا يستقيم مع ما ذهب إليه من كون الأحكام قديمة. قوله: "لأن الاجتهاد" أي: الدليل على أن المصيب واحد, دليلان: عقلي ثم نقلي، الأول: أن الاجتهاد مسبوق بالدلالة؛ لأن الاجتهاد هو طلب دلالة الدليل على الحكم وطلب الدلالة متأخر عن الدلالة؛ لأن طلب الوقوف على الشيء يستدعي تقدم ذلك الشيء في الوجود، فثبت أن الاجتهاد مسبوق بالدلالة، والدلالة متأخرة عن الحكم لأنها نسبة بين الدليل والمدلول الذي هو الحكم، والنسبة بين الأمرين متأخرة عنهما، وإذا ثبت أن الدلالة متأخرة عن الحكم لزم أن يكون الاجتهاد متأخرا عن الحكم بمرتبتين؛ لأنه متأخر عن الدلالة المتأخرة عن الحكم, وحينئذ فلو تحقق الاجتهادان، أي: كان مدلول كل واحد منهما حقا صوابا لاجتمع النقيضان؛ لاستلزامه حكمين متناقضين في نفس الأمر بالنسبة إلى مسألة واحدة. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام: "من اجتهد فأصاب فله أجران, ومن أخطأ فله أجر" دل الحديث على أن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب وهو المدعى وفي الدليل نظر, أما الأصول فلم نسلم أن طلب الشيء يتوقف على ثبوته في الخارج بل على تصوره، ألا ترى أن المتيمم إذا طلب الماء في برية فإنه ليس متحققا لوجوده بل مقصوده، إنما هو التحصيل على تقدير الوجود، سلمنا لكن لا نسلم أن النسبة تتوقف على المنتسبين كما تقدم غير مرة، فإن تقدم البارئ تعالى على العالم نسبة بينه وبين العالم، مع أن هذه النسبة ليست متوقفة على العالم، سلمنا لكنه لا يثبت به المدعى بتمامه, فإنه لا يدل على سقوط الإثم عن المخطئ وحصول الأجر له، وأيضا فدعواه أن الاجتهاد هو طلب الدلالة ممنوعة بل هو طلب الحكم نفسه لكن بوساطة الدلالة، فكان ينبغي له الاقتصار في الدليل عليه؛ لأن مقصوده يحصل به، ولا يتكلف ارتكاب أمر ممنوع ومستغنى عنه، وأما الحديث فلا دلالة فيه أيضا؛ لأن القضية الشرطية لا تدل على وقوع شرطها بل ولا على جواز وقوعه، فإن