وأما إذا لم يدل الآخر لا على القوة ولا على الضعف، فمن أين يقدم الأول عليه؟ وقد يجاب عما قاله: أنه إذا كان التأخير سببا للرجحان فالدال على العلو معلوم التأخير أو مظنونه، بخلاف ما لم يدل على شيء، وما يقطع برجحانه أو يظن راجح على ما لا يكون كذلك، وأيضا فإنه قد ذكر في السادس من هذا القسم ما يعكر عليه فتأمله. الثالث: الخبر المتضمن للتخفيف متقدم على المتضمن للتغليظ؛ لأنه أظهر تأخرا، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يغلظ في ابتداء أمره زجرا لهم عن العادات الجاهلية, ثم مال إلى التخفيف هكذا ذكره صاحب الحاصل وتبعه المصنف، وإطلاق هذه الدعوى مع ما سيأتي من كون المحرم مقدما على المبيح لا يستقيم, وقد جزم الآمدي بتقديم الدال على التشديد قال: لأن احتمال تأخره أظهر؛ لأن الغالب منه عليه السلام أنه ما كان شدد إلا بحسب علو شأنه؛ ولهذا أوجب العبادات شيئا فشيئا وحرم المحرمات شيئا فشيئا, وتبعه ابن الحاجب على ذلك. واعلم أن الإمام ذكر هذا الحكم في حادثة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يغلظ فيها زجرا للعرب عن عاداتها، ثم خفف فيها نوع تخفيف، ولا يلزم من تقديم المتضمن للتخفيف في هذه المسألة لقرينة العدول إلى التخفيف في نوع، أن يقدم المتضمن للتخفيف مطلقا كما ظنه صاحب الحاصل والمصنف, وحينئذ فليس بين الإمام والآمدي اختلاف، وسيأتي في الفروع الزائدة كلام آخر متعلق بهذا. الرابع: الخبر المروي مطلقا أي: من غير تاريخ, يكون راجحا على الخبر المؤرخ بتاريخ متقدم؛ لأن المطلق أشبه بالمتأخر، وإنما قيد بقوله: بتاريخ متقدم؛ لأن التاريخ لو كان مضيقا لكان الحكم بخلافه كما سيأتي. الخامس: يرجح الخبر المؤرخ بتاريخ مضيق أي: وارد في آخر عمره عليه الصلاة والسلام على الخبر المطلق؛ لأنه أظهر تأخرا، ومثله الإمام بأنه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه صلى بالناس قاعدا والناس قيام، وهو يقتضي اقتداء القائم بالقاعد, وقال صلى الله عليه وسلم: "وإذا صلى جالسا" يعني: الإمام "فصلوا جلوسا أجمعين" وهو يقتضي عدم وجوب ذلك فرجحنا الأول لما قلناه. السادس: إذا أسلم الراويان في وقت واحد كإسلام خالد وعمرو بن العاص، وعلم أن أحدهما تحمل الحديث بعد إسلامه, فإن خبره راجح على الخبر الذي لا يعلم هل تحمله الآخر في حال إسلامه أم في حال كفره، كما قاله في المحصول1، قال: لأنه أظهر تأخرا. قال: "الخامس: باللفظ, فيرجح الفصيح لا الأفصح، والخاص وغير المخصص, والحقيقة والأشبه بها، فالشرعية ثم العرفية، والمستغني عن الإضمار، والدال على المراد من وجهين، وبغير وسط، والمومئ إلى علة الحكم، والمذكور معارضه معه, والمقرون بالتهديد" أقول: الوجه الخامس: الترجيح باللفظ وهو بأمور, الأول: أن يكون لفظ أحد الخبرين فصيحا ولفظ الآخر ركيكا بعيدا عن الاستعمال،