الإجماع حجة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وتقريره أن الله تعالى عدل هذه الأمة؛ لأنه تعالى جعلهم وسطا وقد قال الجوهري: والوسط من كل شيء أعدله، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عدولا هذا لفظه, ولأنه تعالى علل ذلك بكونهم شهداء والشاهد لا بد وأن يكون عدلا. وهذا التعديل الحاصل للأمة وإن لزم منه تعديل كل فرد منها بالضرورة لكون نفيه عن واحد مستلزما لنفيه عن المجموع, لكنه ليس المراد تعديلهم فيما ينفرد به كل واحد منهم؛ لأنا نسلم بالضرورة خلافه فتعين تعديلهم فيما يجتمعون عليه, وحينئذ فتجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا, صغيرة وكبيرة؛ لأن الله تعالى يعلم السر والعلانية، فلا يعدلهم من ارتكابهم بعض المعاصي، بخلاف تعديلنا فإنه قد لا يكون كذلك لعدم اطلاعنا عن الباطن. واعترض الخصم بوجهين أحدهما: أن العدالة فعل العبد؛ لأنها عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المنهيات, والوسط فعل الله تعالى لقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] فيكون الوسط غير العدالة, فلا يكون جعلهم وسطا عبارة عن تعديلهم, وكيف والمعدل لا يجعل الرجل عدلا ولكن يخبر عن عدالته، وجوابه أن فعل العبد من أفعال الله تعالى على مذهب أهل الحق لما تقرر في علم الكلام أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. الثاني: سلمنا أن الله تعالى عدلهم, لكن تعديلهم ليشهدوا على الناس يوم القيامة بأن الأنبياء بلغوهم الرسالة, وعدالة الشهود إنما تعتبر وقت أداء الشهادة لا قبلها, فتكون الأمة عدولا في الآخرة لا في الدنيا ونحن نسلمه, والجواب أن سياق الآية يدل على تخصيص هذه الأمة بالتعديل وتفضيلهم على غيرها، فيتعين حمله على الدنيا؛ لأنا لو حملناه على الآخرة لم يكن لهم مزية لأن كل الأمم إذ ذاك عدول، وفي الجواب نظر لأن الله تعالى قد أخبر عن بعض أهل الموقف بإنكار المعاصي وإنكار التبليغ إليهم, بل الجواب أن يقول: العدالة لا تتحقق إلا مع التكليف، ولا تكليف في الدار الآخرة, ويؤيده قوله تعالى: {جَعَلْنَاكُمْ} ولم يقل: سنجعلكم. نعم لقائل أن يقول: إن الآية لا تدل على المدعي؛ لأن العدالة لا تنافي صدور الباطل غلطا ونسيانا، سلمنا أن كل ما أجمعوا عليه حق لكن لا يلزم المجتهد أن يتبع كل ما كان حقا في نفسه بدليل أن المجتهد لا يتبع مجتهدا آخر وإن قلنا: كل مجتهد مصيب. قوله: "الثالث" أي: الدليل الثالث على أن الإجماع حجة: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" ونظيره من الأحاديث كقوله: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" 1 وكقوله: "سألت الله تعالى أن لا تجتمع أمتي على الضلالة, فأعطانيها" 2 وكقوله: "لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلال" وروي: "ولا على خطأ" وكقوله: "يد الله مع الجماعة" 3 إلى غير ذلك, فإن هذه الأحاديث وإن لم