بأن الآية ليست منسوخة؛ وذلك لأنها دلت على أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان مأمورا بأن يقول لهم: لا أجد في الوحي الحاصل غير المحرمات المذكورة؛ ولهذا قال: {أُوحِيَ} بلفظ الماضي فيبقى ما عدا الأشياء المذكورة في الآية على الإباحة الأصلية، وحينئذ فيكون النهي عن أكل ذي الناب والمخلب رافعا لها، وهو ليس بنسخ، وبتقدير أن تكون الآية متناولة للاستقبال أيضا فالحديث مخصص لا ناسخ. قال: "الثالثة: الإجماع لا ينسخ؛ لأن النص يتقدمه ولا ينعقد الإجماع بخلافه ولا القياس بخلاف الإجماع, ولا ينسخ به, أما النص والإجماع فظاهران, وأما القياس فلزواله بزوال شرطه والقياس إنما ينسخ بقياس أجلى منه". أقول: اختلفوا في نسخ الإجماع، والنسخ به على مذهبين حكاهما الآمدي وغيره, والمختار عنده وعند الإمام وأتباعهما كابن الحاجب والمصنف المنع، فأما كونه لا ينسخ فلأن النسخ إنما يكون بنص من الكتاب والسنة أو بإجماع أو قياس والكل باطل، أما الأول وهو النص فلأنه متقدم على الإجماع إذ جميع النصوص متلقاة من النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع لا ينعقد في زمنه -عليه الصلاة والسلام- لأنه إن لم يوافقهم لم ينعقد وإن وافقهم كان قوله هو الحجة لاستقلاله بإفادة الحكم, فثبت أن النص متقدم على الإجماع، وحينئذ فيستحيل أن يكون ناسخا له، وأما الثاني وهو الإجماع فلاستحالة انعقاده على خلاف إجماع آخر، إذ لو انعقد لكان أحد الإجماعين خطأ؛ لأن الأول إن لم يكن عن دليل فهو خطأ, وإن كان عن دليل كان الثاني خطأ لوقوعه على خلاف الدليل، وإلى هذا أشار بقوله: ولا ينعقد الإجماع, وهو بالواو لا بالفاء فاتهمه. وأما الثالث وهو القياس فلأنه لا ينعقد على خلاف الإجماع كما ستعرفه في بابه إن شاء الله تعالى. قوله: "ولا ينسخ به" يعني: أن الإجماع أيضا لا يكون ناسخا لغيره؛ لأن المنسوخ به إما النص أو الإجماع أو القياس والكل باطل. أما النص فلاستحالة انعقاد الإجماع على خلافه كما ذكرناه، وأما الإجماع فلما مر أيضا من امتناع انعقاده على خلاف إجماع آخر. ولما كان السبب في امتناعه معلوما مما تقدم عبر بقوله: أما النص والإجماع فظاهران، وأما القياس فلأن شرط صحته أن لا يخالف الإجماع, فإذا انعقد الإجماع على خلافه زال القياس لزوال شرطه, وزوال المشروط لزوال الشرط لا يسمى نسخا، وفي هذا الجواب شيء يقدم في الرد على أبي مسلم. فإن قيل: هذا بعينه يلزمكم في النصوص فإن من شرط اقتضائها الأحكام أن لا يطرأ عليها الناسخ فإذا طرأ زالت لزوال شرطها, وحينئذ فلا نسخ، وجوابه أن النص في نفسه صحيح سواء طرأ الناسخ أم لا بخلاف القياس. قوله: "والقياس وإنما ينسخ بقياس أجلى منه" أي: أوضح وأظهر كما إذا نص الشارع مثلا على تحريم بيع البر بالبر متفاضلا فعديناه إلى السفرجل مثلا لمعنى. ثم نص أيضا على إباحة التفاضل في الموز وكان مشتملا على معنى أقوى من المعنى الأول فيقتضي إلحاق السفرجل به، فإن القياس الثاني يكون ناسخا للقياس الأول، ويعرف الأقوى بوجوه كثيرة